الامتحان الإلهي

img

قال تعالى: «وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» آل عمران:154.

الإختبار الإلهي: إن مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري.

فاختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام والجهل، والإختبار الإلهي قصده (التربية) أي تربية العباد.

فكما أن الفولاذ يتخلص من شوائبه عند صهره في الفرن، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضم الحوادث، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.

فالإختبار الإلهي يشبه عمل زراع خبير، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو، ثم تصارع هذه البذور كل المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديد والحر اللافح؛ لتخرج بعد ذلك نبته مزهرة أو شجرة مثمرة، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.

وكذا الحال عند تصعيد معنويات القوات المسلحة، حيث يأخذونهم لمناورات إصطناعية ويصعونه في أجواء معينة….

سر الإختبارات الإلهية:

يقول تعالى: «وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» آل عمران:154.

حكمة الإبتلاءات في كلام أمير المؤمنين (ع):

يقول أمير المؤمنين في بيان سبب الإختبارات الإلهية: (وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لِتظهَرَ الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب).

أي أن الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلا بد أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عباده ليتجلى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابلياتهم من القوة إلى الفعل، وبذلك تستحق الثواب والعقاب.

ولو لم يكن الإختبار الإلهي لما تفجرت هذه القابليات، ولما أثمرت الكفاءات، وهذه هي فلسفة الإختبار الإلهي في منطق الإسلام.

الإختبار الإلهي عام:

نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها، بنفس مثال الأشجار والثمار في الزرع.

فالإمتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدتها، وبالتالي تختلف نتائجها. قال تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ» العنكبوت:2، ثم يذكر القرآن هذه الحقيقة في الآية التالية مباشرةً، وهي أن الإمتحانات سنة إلهية دائمية تجري على جميع الأمم، إذ يقول: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» العنكبوت:3، فالجميع دخل في أفرانٍ إمتحانية شديدة. وبان كل شخص…

لأنه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أن أشرف مجاهد وأفضل مؤمن، وأكثر الناس تضحية، فلا بد من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالإمتحان وينبغي أن تُعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الإدعاءات؟!

وقد ورد عن أحد  المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية السابقة، يقول: (يفتنون كما يُفتن الذهب، ثمّ قال يخلصون كما يخلص الذهب).

لتغربلنَّ غربلة:

وعلى حد تعبير أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة: (والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم).

قال الإمام (ع) هذا الكلام والناس جديدو عهد ببيعته، وينتظرون ما سيفعل ببيت المال، أيقسمه حسب الجاه والمقامات بحسب المعايير السابقة، فيبعّض في المال، فيعطي الكثير لبعضهم بحسب المقام، والقليل للبعض الآخر!… أم سيسير معهم بالعدل المحمّدي؟

نماذج من الإختبارات الإلهية:

فالإختبار الإلهي شامل عام يدخل في نطاقهِ حتى الأنبياء(ع)، بل إن اختبارهم بسبب ثقل مسؤولياتهم يكون أشد بكثير من اختبار الآخرين.

وقد عرض القرآن الكريم صوراً لاختبارات شديدة مرَّ بها الأنبياء (ع) وبعضهم مَّرَ بمراحل طويلة شاقة قبل وصوله إلى مقام الرسالة، كي يكون على أتم الإستعداد لتحمّل أعباء قيادة أمته.

من هذه النماذج للإبتلاءات والإختبارات:

         •       وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ.

         •       في رواية الصادق (ع): (إنَّ أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل).

         •       ورد عن الصادق (ع): (إن في الجنة منزلةً لا يبلغها عبد إلا بالإبتلاء).

         •       في شأن اختبار سليمان: «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ».

الإمتحانات في وجوه مختلفة:

         •       عند الناس الذين يعيشون في جوٍ محاط بالمفاسد والوساوس والأردان، فهل يتأثرون؟!

         •       عند ضغط الحرمان والفقر ووجود البديل عنه ألا وهو ترك الدين والآخرة لأجل اللذة الدنيوية ومواجهة الحرمان بها.

         •       الناس الغرقى في اللذائذ والنعم والإمكانات المادية المتوفرة لديهم، فهل يا ترى يؤدون شكر النعم في حياتهم؟

         •       المصائب والآلام والهموم، والحروب والنزاعات والقحط والغلاء والأمواج النفسية القوية والشهوات وغيرها، كلها ميادين تميز شخصية الفرد ومدى تقواه وإيمانه وطهارته.

قال تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ». البقرة:155.

فوفور النعمة من أحد الأسباب المهمة في الإمتحان الإلهي وكيفية مقابلة العبد لوفرة النعمة. والإبتلاءات تارة تأتي باليسر والرخاء وتارة بالعسر والضراء.

عوامل النجاح في الإمتحان الإلهي:

هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر وهو أنه إذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للإمتحان الإلهي، فما هو السبيل لإحراز النجاح والتوفيق في هذا الإمتحان؟

القرآن الكريم يستعرضها لنا في عدة آيات:

         •       أهم عامل للإنتصار أشارت إليه الآية بعبارة: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، فالآية تبشرّ بالنجاح أولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أن الصبر رمز الإنتصار.

         •       الإلتفات إلى نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقته وعابرة وهذا الإلتفات مهم في جعل الأمور والصعاب تمر كمر السحاب وهو ما تضمنته الآية: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ» البقرة:156. فالإسترجاع هذه كلمة من كلمات التعليم القرآني التي تبث في المؤمن روح القدرة على تجاوز مرحلة الإختبار الإلهي بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه.

         •       الإستمداد من الألطاف الإلهية، فالمؤمنون ترافقهم الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح بكل توازن وثقة: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا».

         •       الاعتبار من التاريخ، والتدقيق في تأريخ الأسلاف، وإمعان النظر في مواقفهم من الاختبارات الإلهية هذا عامل مؤثر في إعداد الإنسان لاجتياز الإمتحان الإله بنجاح. فيثبت الله سبحانه قلوب الأنبياء والمؤمنين من خلال النظر لتاريخ الأسلاف: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ».

         •       الإلتفات إلى حقيقة علم الله سبحانه بكل مجريات الأمور، عامل في التثبيت وزيادة المقاومة. فوجود الأهل أوالأصدقاء أو الأحباء عامل قوي في دفع الشخص للأمام من خلال تشجيعهم له ودعمهم له، ولكن ليس كإحساس الإنسان بوجود الله معه في كل لحظاته، فحين واجه نوح (ع) أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا. و لا شك  أن لهذه العبارة الوقع الكبير في نفس النبي (ع) للوصول حتى النهاية. وهذا هو الأمر الذي بلور القضية الحسينية عندما توالت الخطوب على الإمام الحسين(ع) في فاجعة كربلاء، كان يقول هذه العبارة محتسباً عند الله: (هوَّن علي ما نزل بي أنه بعين الله).

الكاتب زينب آل مرهون

زينب آل مرهون

مواضيع متعلقة