القديح والشيخ المرهون

img
عام 0 ــ ــ

في إحدى سنوات الثمانينيات؛ تردّد بين بعض صَحْوييْ البلدة هرَج عابرٌ حول إمكانياته التقليدية في الخطابة، والحاجة إلى صوت آخر من طلائع الخطباء الأحدث ثقافة والأعمق تعاطياً مع المسألة الحسينية.

لكن الهرَج مرّ من دون أثر، وبقي صوت “عبدالحميد” الخاصّ متربعاً على عرش الشجن الحسينيّ في حسينية “إمـْغــِزْوي” في بلدة القديح..!

“عبدالحميد”.. هكذا يسمّيه الناس في القديح. ولطالما كان تجريد الشخصيات من الألقاب دلالة على المكانة، خاصة حين يقترن هذا التجريد بفعل الجماهير.

وفيما يخصّ “الملا” عبدالحميد المرهون؛ فإن فعل الجماهير في القديح يقول إن “عبدالحميد” هو صاحب أول مجلس مسائي في البلدة، وأكثرها احتشاداً وجاذبية، وألذّها شجناً.

وحين أعتمد على الذاكرة، وحدها على الأقل؛ فإن بالإمكان تأكيد أن رصيده “العاشوريّ” في حسينية آل غزوي لا يقلّ عن ثلاثة عقود ونصف العقد. وحين أعود إلى ما يُشبه المشاهد الضبابية في الذاكرة؛ فإنني أرى، من هذه المشاهد، صورة الحسينية القديمة، وشبه ساحة تتوزع فيها أنقاض ومبانٍ آيلة للسقوط، وحجارة بحرية حادة وناتئة.

وبين كلّ مكوّنات المكان يوزّع “عبدالحميد” الشجن بعفوية لهجة دارجة، وحدة صوتٍ يحمّله أنيناً رثائياً يوصله باستجابة كورالية تلقائية لدى آلاف الجالسين في المكان بعضهم إلى جنب بعض..!

تغيّر شكل المكان، وأعيد بناء الحسينية. ونزعت البلدية ملكية منازل كثيرة في البلدة، ومرّرت طرقاً مكانها. لكنّ صوت “عبدالحميد” لا يزال علامة باقية. والناس يتراصّون جلوساً داخل الحسينية، ويفيضون إلى الشارع وأرصفته، ويحتملون التسمّر الطويل على إسفلت صلب تعزلهم عنه سجّادات تكاد لا تخفف شيئاً من ألم تلك الجلسات الخشنة.

المكان ،هنا، هو مكان “عبدالحميد”، والصوت صوته، والشجن شجنه، و “المـِسـْتـِـمْعهْ” خليط يجلس المتعلّم إلى جانب الأمي، الموظف قبالة الفلاّح، والعجوز مع الطفل. وكلٌّ يشعر ويُدرك أن “مجلس عبدالحميد” هو أحد “معالم” الطقوس الحسينية..!

سكّان القطيف، على نحو عام، يحملون لآل المرهون احتراماً عفوياً، ليس سببه الوحيد هو كون الأسرة التي أسسها الشيخ منصور المرهون (1294-1362هـ)، وأنجب منها شيوخاً وخطباء فحسب.

السبب الأعمق ـ في تصوّري ـ هو كونها أسرة ناشئة من قاعدة الهرم الاجتماعيّ في القطيف. أسرة وُلدت بين الفلاّحين وتطوّرت، ثقافياً، منها. واستمرّت في تواصلها الشعبي العفوي مع هذه القاعدة.

وقد أحبّها الناس بعمق وصدق وتلقائية. و “الملاّ عبدالحميد” إنما هو نسخة أصيلة للشخصية “المرهونية” التي عرفها الناس. وهو في منبره ـ كما في حياته ـ لا يُمارس صناعة ولا تكلفاً. إنه على السجية الشعبية البسيطة الوادعة الهادئة.. والحميمة..!

وقد يعتبره “القـَدَاحهْ” نسخة خاصة بهم، فهو خطيب منابر أخرى في شهر رمضان وفي مجالس العزاء والفواتح. وحضوره المنبري في البلدة يكاد لا يخفت على مدار العام. ولكنه ـ في محرم بالذات ـ يُمثـّل النسخة الأصلية للمجلس الحسينيّ في البلدة. وفي طفولتنا؛ كنا نعبر: من لم يذهي الى عبد الحميد فانه لم يتسمع!

الكاتب ــ ــ

ــ ــ

مواضيع متعلقة