دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 10

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

البحث الثالث: دور المجتمع في تأطير وبلورة فكرة الضمان الاجتماعي

من خلال هذا السرد نرى أن على المجتمع بشكل أو آخر أن يؤمن للفرد الذي لا يستطيع عملاً، ولا يجد حيلة يسعى من خلالها إلى تحصيل مفردات حياته الأساسية ولو بالحد الأدنى أن يضمنه له تحصيل ذلك عبر استحداث وسائل خاصة وأساليب معينة تؤدي في النتيجة إلى تحقيق هذا التأمين، أو هذا الضمان للإنسان المحتاج. وهذا التأمين، أو هذه الآلية يمكن أن تمر عبر  قناتين هما:

القناة الأولى: الأفراد

الأمر الذي يعني أن على أبناء المجتمعات البشرية ـ إن كانوا ذوي اقتدار وتمكين ـ أن يقوموا بهذا الدور الذي ينبغي على الدولة أن تقوم به إذا ما تخلت الدولة عنه نتيجة طبيعة سياستها أو منشآتها ومشاريعها كما سنرى إن شاء الله في القناة الثانية. فالأفراد المتمكنون إذا عليهم أن يضمنوا ذلك لإخوانهم غير المتمكنين وغير القادرين على تحصيل حاجاتهم الحياتية الأساسية بالشرطين المارين ـ وهما كونه ممن لا يجد عملاً لمن كان قادراً على العمل، أو أنه يجد عملاً لكنه غير قادر عليه كما أسلفنا تشخيصه في المبحث السابق ـ فضلاً عن أن البعض يجد عملاً، لكنه لا يكفيه من حيث موارده المالية في سدّ احتياجاته اليومية.

وعليه فإن الإسلام في مثل هذه الحال يفرض على هؤلاء الأفراد أن يقوموا بدور الدولة هنا، وأن يحققوا هذه الوظيفة على المستوى الواقعي والميداني بعيداً عن التأفّف والتضجّر، أو الامتناع والتمنّع، أو عن محاولات التنصّل من هذه الوظيفة المفروضة عليهم.

القناة الثانية: الدولة

فكون الدولة الممثل الوحيد والأول للفرد المسلم وللمجتمع الإسلامي فإنها تعتبر ظل المجتمع هذا، وكونها ظلّا ًيعني أنها ممثل له تمثيلاً حقيقياً منبثقاً عن إرادته. وإذا كانت الدولة دولة إسلامية يقودها إنسان افترضته السماء ونصبته فإنه حينئذٍ يكون قد أصبح ظلاً تنبثق إرادته عن إرادة السماء نفسها لما يتمتع به من جانب العصمة التي تأخذ بيده دائما إلى السبيل الصحيح، وإلى التعامل الواقعي المبتني على إرادة السماء وقوانينها.

البحث الرابع: عصمة الحاكم وآلية تنفيذ الضمان المالي في الإسلام

وانطلاقاً من هذا وهو أن الحاكم لابدّ أن يكون عادلاً متّصفاً بجميع شرائط الكمال، متولياً أمر الرعية بنفسه، متفقّداً اُمورهم وأحوالهم بمباشرته، أو لا أقلّ من أن يكون ذلك تحت إشرافه، وينصف أفراد رعيته بعضهم من بعض؛ فيأخذ الحق لفقيرهم من غنيهم ولضعيفهم من قويهم([1])، وأجيرهم من مستأجرهم، فنحن نشترط فيه أن يكون معصوماً، فلا يزل في أحكامه هذه ولا يخطئ فيها أبداً.

هذا بالنسبة لنا نحن الإمامية، أما الآخرون فإنهم لا يشترطون فيه العصمة، بل يشترطون فيه مجرد العدالة، ويقرون بأن الحاكم إذا خرج عن العدالة جاز التمرد عليه والخروج عن طاعته. ومن هنا فإننا نلتفت إلى حقيقة هي أن المشكلة الأساسية الكامنة وراء حالات كثيرة من انقلاب حياة أبناء الشعوب هي عدم سد حاجاتهم الأساسية، وعدم اتصاف الحاكم بصفة تجعل منه ممثّلاً حقيقياً، وأهلاً لأن يكون ممثّلاً لهم، بحيث إنه يسعى جهد إمكانه وقابلياته إلى سد حاجات المجتمع وأفراده ضمن الدستور والقانون والشرع دون أن يخرج عنها، فتصبح العملية حينئذٍ خارجة عن إطار الحق والعدل.

وكما ذكرنا فإنه وفق مفهوم قوله تعالى: ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ ينبغي أن نعرف أن انعدام سد هذه الحاجات وتوفيرها وضمانها للإنسان سوف يقضي على أي استقرار نفسي له، بل يجعل نفسه وباله غير مطمئنين أبداً. وهذا ما نلمسه واضحاً من خلال السياق القرآني في آية المقام الكريمة حيث تقول مقرّرة حالهم: ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ الذي يعني أنه ما لم تسد الحاجات فإنه لا يحصل عند الإنسان أي اطمئنان نفسي أو قلبي، وما لم يكن عند الإنسان أي اطمئنان نفسي أو قلبي فإنه حينئذٍ سوف لن يكون عنده أي استعداد لتقبل النصح والإرشاد؛ ذلك أنه إذا ما ارتفع صوت المعدة فإنه يستحيل أن يعلو عليه أي صوت آخر؛ سواء كان صوت العقل والمنطق، أو أي صوت آخر غيره. فإن أشبعنا المعدة وأخرسناها، وكتمنا صوتها، فقد ارتفع حينئذٍ صوت العقل والتفكير والمنطق؛ فأصبح الإنسان حينها يعيش مرحلة الهدوء والاستقرار، وتقبّل النصح والوعظ. وبخلافه فإن كل هذه الأمور الإيجابية سوف تتلاشى وتضمحل ولا يبقى منها شيء أبداً.

دور الضريبة المالية في الإسلام في سد احتياجات الفرد الأساسية

وكما ذكرنا فإن الله تبارك وتعالى قد افترض الحد الشرعي الذي يسد حاجة المجتمع والأفراد بعد ذكر ما أسلفناه من سلبيات عدم سد حاجات المجتمع الأساسية، وجعل جل شأنه سداد هذه الحاجات عن طريق صندوق الضمان الذي تتكفل به الدولة أو الأفراد. فصندوق الضمان هو هيئة مالية افترضها الإسلام واخترعها لتكون وسيلته لتنفيذ آلية إيصال الحقوق الشرعية المفترضة في أموال الأغنياء لأصحابها المحتاجين من فقراء المجتمع. وهذه الحقوق قد جعل الله تبارك وتعالى لها ميزاناً تُستحصل به، وآلية توزّع بها، وسبيلاً عامّاً تقع أفرادها تحته؛ فمن فريضة الخمس، إلى فريضة الزكاة، إلى فريضة زكاة الفطرة، إلى غيرها من الضرائب المالية الواجبة أو المستحبة التي أقرها الإسلام فيما لو لم تكفِ الضرائب المالية الواجبة. وبناء على هذا فإننا نجد أن الشرع الإسلامي الأقدس يشدد على ضرورة إخراج هذه الضرائب المالية وإعطائها لمستحقيها، فنجد مثلاً في الروايات الشريفة قول أبي عبد الله×: «من منع قيراطاً من الزكاة، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً»([2]) .

وقوله×: «من منع قيراطاً من الزكاة، فليس بمؤمن»([3]) .

يتبع…

_______________________

([1]) يقول أمير المؤمنين×: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه». نهج البلاغة / الكلام: 37. وحينما حضرته× الوفاة وقف الخضر على باب الدار مسلّماً بسلام طويل جاء فيه: «القوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق». كمال الدين: 218 ـ 219، بحار الأنوار 42: 303 ـ 305 .

([2]) المحاسن 1:  87 ـ 88 / 28، الكافي 3: 505 / 14، روضة الواعظين: 356.

([3]) الأصول الستة عشر: 110، المقنعة: 268.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة