الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 05

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

عامل الزمن

وهذا الفرق بين هاتين البلدتين يمكن لحاظه من خلال عامل الزمن حيث يتبين ذلك لنا معه من خلال أبسط مقارنة بينهما؛ ذلك أننا يمكن أن نعد الزمن الذي لامس عمر الدعوة في مكة المكرمة زمناً بدائياً بسيطاً، أما في المدينة المنورة فقد تحوّل إلى زمن معقّد كثير الأبعاد، متوازي الدلالات المعرفية على مستوى الدولة والحكم. وهذا ما سوف نلمسه من خلال إجراء مقارنة بسيطة بين مرحلتي الدعوة المكية والمدنية؛ وقد أشرنا إلى أنه في مكة المكرمة لم تولد الدولة ولم ينتشر الدين كما حصل ذلك في المدينة المنورة حيث ولد المجتمع المدني الإسلامي، وقامت على صرحه الدولة الإسلامية المقدّسة، وأعقب ذلك ما أعقب مما ترتّب على هذا الوجود من قوانين تحكم سيرورة هذه الدولة المباركة على مستوى الحكم والإدارة والحرب والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وكذلك على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وهما المستويان اللذان يتعلقان تعلقاً مباشراً بحياة الإنسان المسلم من جهة، وبالجانب الحضاري للدولة الإسلامية من جهة اُخرى.

قانون الأحوال الشخصية في الدولة الإسلامية

وكمثال على هذا نضربه هو أن الإنسان في مكة المكرمة؛ سواء كان في الجاهلية، أو بعد مجيء الإسلام قبل فتحها كان يحتكم إلى سيفه ورمحه ليعيش ويأكل ويشرب، بل حتى ليتزوج، فهو لم يكن له من هم إلّا أن يمتشق سيفه ليقتل وينهب أموال الآخرين، وليسبي نساءهم، فيتزوج منهن؛ حيث إن أفضل عقد للزواج يراه هو أن يعقد على المرأة بالرمح والسيف:

وذات حليل أنكحتها رماحنا *** حلال لمن يبني بها لم تطلّقِ([1])

ويقول آخر:

ومن أيم قد أنكحتها رماحنا *** واُخرى على عمّ وخال تلهّفُ([2])

هذه إذن هي القيم البدوية التي كانت مجتمعات الجزيرة العربية آنذاك تعيشها طابعاً حياتياً سيّالاً يمتدّ ليبسط مفرداته الأخلاقية على كل جوانب حياة أبناء تلك المجتمعات. وهي قيم مستمدّة من الواقع المزري والمتخلّف والمغلّف بالجهل المطبق الذي كانت تعيشه هذه الشعوب حيث تستمدّ حيثيات أخلاقياتها من تصرفات الإنسان الجاهلي نفسه وهو يمارس حالة الاعتداء على الآخرين، وقتلهم، وسبي نسائهم، ونكاحهن بغير حقّ، ولا وجه مشروع.

لكن حينما نتوجه بأبصارنا شطر المدينة المنورة، وننتقل برصدنا ناحيتها بعد دخول النبي الأكرم محمد| إليها فإننا سنجد أن الأمر قد أصبح مختلفاً تماماً عنه عند المجتمعات المكية أو الجاهلية الأخرى؛ فصار لزاماً على الإنسان ألّا يأكل إلّا من وجه مشروع أباحه الله تبارك وتعالى له، كأن يكون من كدّ يمينه([3])، أو من ميراث يأتيه، أو هدية، أو من أي لون من ألوان الكسب المشروع التي تؤدّي به إلى تحصيل المال. كما أنه افترض عليه ألّا يشرب إلّا ما هو محلل، وإلّا ما هو مكتسب عن طريق محلّل.

كما أنه كذلك افترض على الإنسان المسلم أن يتّبع قوانين دقيقة وصارمة في مسألة النكاح التي أصبحت مشروطةً حليتُها ومأخوذاً في جوازها رضا المرأة، ورضا أهلها أيضا. والأهم من ذلك كله أنها أصبحت يؤخذ فيها العقد الشرعي المعتبر الذي يعتبر الركيزة الأساس في النكاح الشرعي الإسلامي الذي لا يصح من دونه.

إذن لابد هنا في المقام من أن يكون هنالك عقد شرعي يصحح هذا النكاح، فضلاً عن شروط أخرى لا تقل أهمية عنه؛ بحيث إن النكاح يبطل إن تخلف واحد منها، ومن هذه الشروط أن يكون هنالك رضا متبادل بين الطرفين حول الزواج فلا يجبر رجل على الزواج من امرأة، ولا تجبر امرأة على الزواج من رجل؛ إذ إن هذا الإجبار والإكراه سوف يقودان إلى نتيجة سلبية هي بطلان عقد النكاح هذا، فهو وإن كان عقداً شرعياً صحيحاً من حيث الصيغة، لكنه باطل من حيث الأثر الذي يمتد ليبسط وجوده على ثمرة ذلك الزواج التي لا تعتبر ثمرة شرعية حينئذٍ.

وهكذا فإننا نجد أن هنالك فرقاً واضحاً على مستوى العبد الزمني من حيث الزمن الذي عاشه النبي الأكرم| في المدينة المنورة، والزمن الذي عاشه (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله) في مكة المكرمة، ومنه نتبيّن أن البعد الزمني قد حمل لنا ملامح البداوة والتخلف والجهل في مكة، في حين أنه رسم لنا ملامح الحضارة والتطوّر والعمران في المدينة المنورة.

وهذا الأمر قد امتدّ حتى إلى المسلمين أنفسهم؛ ذلك أن الإنسان في المجتمع المكي ربما كان ينفق وقته كله من الصباح حتى المساء فيما لا يعود عليه ولا على أبناء جنسه بخير أبداً، بل إنه يقضيه في الاُمور التافهة إن لم تكن محرمة، في حين أن إنسان المدينة المنورة قد أصبح ذا شكل مختلف، وطابع آخر يختلف اختلافاً كبيراً، ويتباين تبايناً واسعاً وشاسعاً من حيث المضمون والمحتوى عنه في مكة المكرمة؛ حيث إنه أصبح يستغل وقته استغلالاً كاملاً وتامّاً فيما يرضي الله تبارك وتعالى من جهة، وفيما فيه نفع وفائدة تعودان عليه أو على أبناء جنسه من جهة اُخرى.

وهذا ما نجده واضحاً من خلال حث الإسلام الكبير، ودفعه الحثيث للإنسان على أن يستغل كل لحظة من لحظاته، وكل آن من آناته، وكل جزء من أوقاته فيما يرضي الله تبارك وتعالى، أو فيما يعود عليه وعلى مجتمعه بنفع، بحيث إنه يدفعه إلى أن يستغل يومه الحالي في ما هو أكثر نفعاً وفائدة مما كان عليه في يومه السابق: «من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شرّاً من يومه فهو مفتون»([4]).

فالإنسان إذن يجب أن يكون في يومه هذا أفضل من أمسه، ويجب أن ينظّر ويخطط ويبرمج ليكون غده أفضل من يومه، بل إن عليه أن يخطط وينظّر إلى ما هو أبعد من ذلك ليجعل قابل أيامه كلّها مهما امتدّت أفضل من سابقها ومن ماضيها، حيث دفع الإسلام إياه لأن يكون وقته كله عطاء ونفعاً وفائدة للمجتمعات البشرية عامة، وليس للمجتمع الإسلامي فقط. فالإسلام هنا يحثّه مثلاً على التجارة المحلّلة، أو طلب العلم، أو القيام بأي عمل من الأعمال التي من الممكن أن تعود بالنفع على الإنسانية دون أن يحاول أن يهدر جزءاً ولو يسيراً جدّاً من هذا الوقت؛ لأن الإسلام ينظر إلى الوقت على أنه طاقة وعمل، وليس هو مجرد خط زمني متكوّن من وحدات متناوبة صغيرة تمتدّ مع الإنسان من ماضيه إلى حاضره حتى مستقبله. وهذا ما يتلمس الإنسان طريقه إليه واضحاً من خلال الأثر الوارد، والذي يقول: «إذا بعث ابن آدم يوم القيامة وضعت بين يديه ثلاثة صناديق: أحدها مليء بصور حسنة، والآخر مليء بحيّات وعقارب، والثالث فارغ، ثم يقال له: الصور الحسنة هي أعمالك الحسنة في الدنيا، والحيّات والعقارب هي أعمالك السيّئة في الدنيا، والثالث الفارغ هو الوقت الذي أضعته فيها دون أن تعمل فيه عملاً صالحاً».

ومن خلال هذا فإننا نجد أن الوقت قد أصبح له قيمة ومعنى سوف يتركّزان في ذهنية الإنسان المسلم عبر ما ورد في هذا الحديث الشريف، وفي غيره من الأحاديث الاُخرى التي جاء ذكرها في الشريعة الإسلامية، والتي حثّته على استثماره واستغلاله استغلالاً تاماً وصحيحاً وسليماً بشكل إيجابي وفاعل؛ كي يُرتقى به إلى مصاف أعلى([5]).

يتبع…

_______________________

([1]) البيت للفرزدق. الكشاف 1: 518. تفسير البيضاوي 2: 170. تفسير البحر المحيط 3: 222.

([2]) أحكام القرآن 2: 141.

([3]) وقد ورد عن رسول الله| قوله: «ما أكل ابن آدم طعاماً أفضل من كدّ يده». سير أعلام النبلاء 2: 570.

([4]) أعلام الدين في صفات المؤمنين: 303.

([5]) وهو ما أكّد عليه نبينا الأكرم، وحبيبنا الأعظم محمد| بقوله الشريف: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». انظر: الأمالي (الطوسي): 526 / 1162. مكارم الأخلاق: 459. الدعوات: 113. جامع الخلاف والوفاق: 233. وسائل الشيعة 1: 114، أبواب مقدمة العبادات، ب27، ح285. مشكاة الأنوار: 298. محاسبة النفس: 87. بحار الأنوار75: 74، 78: 173. فتح الباري 11: 201. المصنف (ابن أبي شيبة) 8: 127. الجامع الصغير 1: 183. كنز العمّال 15: 879.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة