سورة القدر/ ليلة القدر؛ وقتها وموقعها
قال تعالی: بسم الله الرحمن الرحيم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
لقد تقدم أنّ کلمة {وَمَا أَدْرَاكَ} جاءت هنا للتعظيم والتشريف والتکريم لهذه الليلة المبارکة، وقد علمنا من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} أنّ ليلة القدر من شهر رمضان، وبقي علينا أن نعرف أي ليلة هي من هذا الشهر المبارک. وقد قال بعضهم: إنّها ليلة سبع وعشرين، وإنّ القرآن ذکر ذلک بالحروف والکلمات. واعتمدوا علی ما ذکره القرطبي (المتوفى بتاريخ 671 هجرية) في تفسيره، وقبله صاحب کتاب (أحکام القرآن) وهو ابن العربي المعافري الأندلسي المالکي (المتوفی سنة 638 هـ )، أو لعله ابن العربي الأول (المتوفى: 543 هـ ) صاحب کتاب: (قانون التأويل في تفسير القرآن)، فإنّه قال: إنّ الله جلّ وعلا قسّم کلمات سورة القدر علی ليالي شهر رمضان المبارک فجعلها ثلاثين کلمة لثلاثين ليلة، وجعل الکلمة السابعة والعشرين کلمة (هي) إشارة إلی أنها هي ليلة القدر.
ومرة ثانية: إنّ الله جلّ وعلا لم يذکر ليلة القدر باسمها إلّا في هذه السورة، وقد ذکرها فيها ثلاث مرات:
1 ــ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
2 ــ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
3 ــ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
وکل مرة من هذه المرات الثلاث تسعة أحرف فتکون نتيجة 9×3 = 27 إشارة إلی أنها ليلة سبع وعشرين، وجاء في کتاب الدر المنثور عن ابن عمر عن رسول الله| أنه قال: «التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين».
وقال بعضهم: إنّها ليلة سبع عشرة من شهر رمضان المبارک اعتماداً علی قوله تعالی: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.
لأنّ معنی ذلک أنّ الله جلّ وعلا أنزل القرآن في ليلة ذلک اليوم الذي سمّاه يوم الفرقان، وهو يوم يبدو علی المشهور أنه اليوم السابع عشر من شهر رمضان.
ولکنّ القزويني المتوفى سنة 683 قال في کتابه (عجائب المخلوقات) في کلامه عن شهر رمضان قال: وفي السابع والعشرين منه صارت واقعة بدر ونزول الملائکة لنصرة النبي|.
وهذا القول يتفق مع ما تقدم من قول القرطبي وصاحبيه في تفسيرهم من أنّ ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين.
وقال بعضهم: إنها ليلة إحدی وعشرين، معتمدين في قولهم هذا علی قول الإمام الحسن بن علي ع في تأبين والده حيث، قال: «لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدرکه الآخرون، لقد کان يجاهد مع رسول الله| فيقيه بنفسه. ولقد کان يوجهه برايته، فيکتنفه جبرئيل عن يمينه، وميکائيل عن شماله، فلا يرجع حتی يفتح الله عليه. ولقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسی بن عمران، ورفع فيها عيسی بن مريم، وأنزل فيها القرآن. مات ولم يخلف صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمئة درهم فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادماً لأهله». وخنقته العبرة، فبکی وبکی الناس معه.
فإذا کانت وفاة أبيه ع ليلة إحدی وعشرين ــ کما هو المشهور ــ وقد أخبر عنها في کلامه ع أنها ليلة نزول القرآن، تکون هي ليلة القدر؛ لأنّ القرآن أنزل في ليلة القدر.
ولکن يوجد من يقول: إنّ الإمام ع ضرب ليلة إحدی وعشرين وقبض في ليلة ثلاث وعشرين، وإذا صحت هذه الرواية فإنّ کلام الإمام الحسن ع صار عن ليلة ثلاث وعشرين، فهي ليلة القدر المبارکة. وهذا القول يتفق مع رواية عبد الله بن أنيس الجهني (رضي الله عنه)، وهي أنه جاء إلی رسول الله| فقال له: يا رسول الله، إنّ لي إبلاً وغنماً وغلمة، فأحب أن تأمرني بليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة معک. قالوا: وکان ذلک في شهر رمضان المبارک، فدعاه النبي| وسارّه في أذنه، فکان الجهني بعد ذلک إذا کانت ليلة ثلاث وعشرين، دخل المدينة بأهله وولده وغلمانه، وحضروا الصلاة مع رسول الله|، فإذا أصبح خرج بمَن معه.
قالوا: فعرف بعض المسلمين من ذلک أنّ ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة القدر، کما عرفوا من إسرار الرسول| أنه لا يحب أن يصرّح بليلة القدر.
ومما يدل علی ذلک ما روي عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أنّه قال للنبي|: أقسمت عليک يا رسول الله إلّا أخبرتني عن ليلة القدر، أي ليلة هي؟ قال: فغضب رسول الله| غضباً ما رأيته غضب على مثله، ثمّ قال: «إنّ الله جلّ وعلا لو شاء لأطلعکم عليها، التمسوها في السبع الأواخر، ولا تسألني عن شيء بعدها».
وهذا من مصاديق قولهم: إنّ الله جلّ وعلا أخفی علی عباده أشياء في أشياء لخير أراده بهم، منها: أنّه جلّ وعلا أخفی ليلة القدر في ليالٍ من شهر رمضان؛ وذلک ليحيوا بعض الليالي من الشهر من أجلها، وأخفی الصلاة الوسطی في الصلوات الخمس؛ لتقوی محافظتهم علی الصلوات الخمس من أجلها، وأخفی اسمه الأعظم في أسمائه الحسنی؛ ليدعوه بأسمائه کلها، وأخفی ساعة الإجابة في ساعات ليلة الجمعة ويومها؛ ليدعوه في جميع ساعاتها، وأخفی أولياءه في عباده لئلّا يستهين أحد من المؤمنين ببعض إخوانه المؤمنين، قال تعالی: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وأخفی نهاية الأجل وأسبابه ومکانه {مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}؛ وذلک ليکون الإنسان منتظراً للموت في جميع أحواله، فلا يقدم علی المعصية؛ مخافة أن يموت عليها، ولا يتأخر عن الطاعة؛ مخافة أن يموت عنها.
وبسبب هذا الإخفاء حصل الاختلاف في ليلة القدر المبارکة منذ الصدر الأول؛ فقد روي في کتب کثيرة ــ ومنها الدر المنثور، ومسند أحمد وغيرهما ــ أن الخليفة عمر (رضي الله عنه) جمع علماء الصحابة في أيام خلافته، وفيهم ابن عباس (رضي الله عنه)، وقال لهم: أرأيتم قول رسول الله| في ليلة القدر: «التمسوها في العشر الأواخر وتراً؟» أي ليلة ترونها؟ فتکلموا عنها واختلفوا فيها، وکان ابن عباس ساکتاً، فقال له عمر: مالک لا تتکلم؟ فقال ابن عباس: إنک أمرتني ألا أتکلم حتی يتکلموا. فقال: ما أرسلت إليک إلّا لتتکلم، فقال (رضي الله عنه): إنّ الله وتر ويحب الوتر وقد جعل الدنيا تدور علی سبعة أيام، وإنّ السماوات سبع، والأرضين سبع، والسجود علی سبع، والطواف سبع، والسعي سبع، والجمار سبع، وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع، فقال الخليفة: وکيف خلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع؟ لقد فهمت من هذا شيئاً لم أفهمه. فقال ابن عباس (رضي الله عنه): قول الله تعالی: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، ثم ذکر رزق الإنسان قال تعالی: {َفلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه ِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}، ثمّ قال: فما أری ليلة القدر إلّا لسبع يمضين أو لسبع يبقين من العشر الأواخر من شهر رمضان، فقال الخليفة لمن معه: أعجزتم أن تکونوا مثل هذا الغلام الذي بعدُ لم تجتمع شؤون رأسه؟ والله إنّي لا أری القول إلّا کما قلت يابن عباس.
وإذا کان ابن عباس هکذا من العلم فما ظنک بأستاذه الذي کان يقول عنه: العلم عشرة أجزاء، أعطي علي ع منها تسعة لم يشارکه أحد فيها، وبقي جزء واحد منها لسائر النّاس وعلي ع أعلم به منهم؟! ولما سئل: ما بلغ علمک من علم علي ع؟ قال: نقطة في بحر لجي.
وفيه أنّ سبب ذهاب بصر ابن عباس البکاء على علي ع، وقد خوفه بعض من يحبه من ذهاب بصره بکثرة البکاء، فقال: أنا لا أبکي لشخص فقدته وإنّما أبکي العلم بذهاب علي ع.
وهنا يرد علينا هذا السؤال، وهو أنه إذا کان علي ع في هذه الدرجة من العلم، فکيف احتاج إلی أخيه عقيل (رضي الله عنه) في أن يبغي له امرأة ولدتها الفحولة؟
الجواب: أنه ع لم يقل ذلک لأخيه إلّا لأنه أراد أن يکرّم العالم، ويعلّم الجاهل.
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.