سورة العلق / 5
قال تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾
قال بعض علماء التفسير ـ رحم الله الماضين منهم وأيد الباقين ـ : يحتمل أن تكون الربوبية المذكورة في الآية الأولی من هذه السورة المباركة تعني الربوبية الخلقية الجسمية؛ ولهذا وصفها جلّ وعلا بقوله: (الذي خلق)، أمّا الربوبية المذكورة في الآية الثانية وما بعدها فهي تعني الربوبية الخلقية الروحية التشريعية، ولذلك وصفها بقوله: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، وزاد فيها وصفه جلّ وعلا لنفسه (بالأكرم) تعريفاً بمقام العلم وفضيلته وأنّه أعظم النعم الإلهية على الإنسان، فلا تساويه نعمة حتى نعمة الوجود، ولذلك فإنّه جلّ وعلا وصف نفسه عند ذكر نعمة الخلق والتسوية والتعديل بالكرم فقط، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾([1])، ووصف نفسه عند إفاضة العلم بالأكرمية، فقال تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
وإنّما بدأ جلّ وعلا بذكر العلم بالقلم قبل غيره من العلوم؛ لأن القلم هو الذي يخلّد العلوم وينقلها من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة، فالإنسان يستطيع أن ينفع بعلومه ما دام حيّاً ولكنه لا يستطيع أن ينفع بعلومه بعد موته إلّا بها كتب بقلمه أو بما كتب عنه. وهذا جارٍ حتى في الأنبياء^، ولذلك قال رسول الله: «آتوني بداوة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً».
وقد روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنّه كان بعد ذلك يبكي ويقول: الرزية كلّ الرزية من حال بين رسول الله وبين أن يكتب للناس كتاباً لن يضلوا بعده أبداً!
وقد نسب الله جلّ وعلا العلم بالقلم وغيره إلى نفسه نظراً إلى أنّ القدرة على التعلم ووجود الاستعداد الجسمي والروحي وإيجاد الأسباب والوسائل لتحصيله كلّها منه جلّ وعلا، بل قيل: إنّ أول من كتب بالقلم نبي الله إدريس× بتعليم من الله جلّ وعلا، وإنّ ذلك من أسباب ووسائل الرفعة التي رفعه الله بها، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾([2])، فكان من أسباب الرفعة المعنوية التي رفعه الله بها أن كان أول من كتب بالقلم بتعليم من الله جلّ وعلا، ولذلك قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾([3]).
قالوا: وإنّ في الإشادة بعلم القلم منذ اللحظة الأولى من رسالته| أكبر دليلٍ علی صدق نبوته؛ لأنّه| لم يكن قارئاً ولا كاتباً، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾([4]). فما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو القائل لهذا القرآن فما أبرزها منذ اللحظة الأولى إلا لأنها الرسالة التي يجب عليه تبليغها.
وقد واصل| سيرته في نشر العلم بالقلم ومحو الأمية من البشرية حتى إنه جعل فداء بعض الأسرى من قريش في واقعة بدر من الذين يحسنون القراءة والكتابة أن يعلم الواحد منهم عشرة من المسلمين فإذا أحسن العشرة ذلك أطلق الأسير.
وقد كتبت في كتابنا (رائق الضمير) موضوعاً عن الكتابة فمن أراد المزيد فليراجع.
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.