سورة القدر/سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر/ 1
قال تعالی: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾.
السلام هو السلامة من الآفات الظاهرة والباطنة، (فسلام هي) يعني أنّها ليلة سلام، ولكن ما هو هذا السلام؟ أهو السلام الذي ذكرنا أنه سلام من الآفات الظاهرة والباطنة؟ يعني أنّ سلامها كسلام الجنّة التي قال الله جلّ وعلا عنها: إنها دار السلام، فلا داء فيها ولا بلاء ولا نصب ولا عطب ولا مرض ولا عرض ولا موت ولا فوت ولا غير ذلك من الأشياء المكروهة.
إنّ الوجدان يحكم بأنّ ليلة القدر ليست كذلك، فقد تجري فيها الأمراض والأعراض والحوادث والكوارث. قال السيد حيدر الحلي في مرثيته للإمام علي(ع):
لقد أراقو ليلة القدر دماً
|
|
دماؤها انصببن في انصبابه
|
وانقلب السلام للفجر بها
|
|
للحشر إعوالاً على مصابه
|
لأنّ هناك من يقول: إنّ ليلة تسعة عشر هي ليلة القدر، وهناك من يقول: إنّ الإمام(ع) ضرب ليلة أحد وعشرين وتوفي ليلة ثلاث وعشرين، إذاً فما هو هذا السلام المنسوب لليلة القدر؟
قال بعضهم: لعلّ كونها سلام أنّ الأعمال المقبولة فيها تسبب السلامة لصاحبها من أهوال يوم القيامة، بل ومن النار أيضاً وذلك لأنّ الحسنة فيها تزيد على ثلاثين ألف حسنة؛ لأنّها خير من ألف شهر وألف الشهر ثلاثين ألف ليلة، فمعنى ذلك أنّ حسنة ليلة القدر خير من ثلاثين ألف حسنة في غيرها، ويوم القيامة تتوقف سلامة الإنسان المؤمن فيه على وزن حسناته وسيئاته، قال تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾([1])، وقال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾([2])، وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾([3]).
فإذا جاء المؤمن بهذا الكم الكثير من الحسنات بسبب مضاعفة الله لها ببركة ليلة القدر فلابدّ أن تكون حسناته أرجح من سيئاته على الأعم الأغلب، وبذلك تحصل له السلامة ومن أهوال القيامة ومن النار كما حصلت السلامة لنوح(ع) من الطوف المرعب، فقال الله تعالى: ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ﴾([4])، وكما حصلت السلامة لإبراهيم الخليل(ع) من نار نمرود، قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾([5])، كما حصلت السلامة ليحيى(ع)من متاعب ومصاعب الأيام الثلاثة التي هي أصعب الأيام التي تمرّ على الإنسان، فقال تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾([6]).
وقد استدلوا على صعوبة يوم المولد بأنّ الطفل لا يخرج من أحشاء أمه إلّا صارخاً أو مغمى عليه، ولذلك قال الشاعر:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً
|
|
والناس حولك يضحكون سروراً
|
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا
|
|
في يوم موتك ضاحكاً مسـروراً
|
إذاً فيوم الولادة صعب على المولود، كما أنّه صعب على الوالدة ولكنه كان على يحيى(ع) سلاماً؛ لأنّ الله جلّ وعلا يسر وسهل الولادة عليه وعلى أمّه، ولأنّه وصل بذلك إلى عالم الحياة الدنيا مزرعة الآخرة والطريق إليها، فلولا ما يحصل عليه المؤمن فيها من الأعمال الصالحة لما وصل إلى عالم النعيم في الآخرة، ولذلك قال أمير المؤمنين(ع) لرجل سمعه يذمّ الدنيا: «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزود، ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة».
ويوم الموت أصعب من يوم الولادة، ولكنه لولاه لما وصل المؤمن إلى مقام ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.
ويوم البعث أصعب من يوم الموت، ولكنّه لولاه لما وصل الإنسان المؤمن إلى نعيم الجنة الدائم الذي لا زوال له ولا اضمحلال، لا سيما إذا كان شهيداً كيحيى(ع)، فإن الشهادة تعطي صاحبها ما لا يعطيه أيّ عملٍ صالح فقد جاء عن النبي| أنه قال لولده الحسين(ع) في رؤياه: «إن لك في الجنة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة». ويحيى شهيد فعليه وعلى كل واحد من أمثاله السلام يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.