سورة القدر/ عظمة ليلة القدر وفضلها
قال تعالی: بسم الله الرحمن الرحيم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
هذه الکلمة وهي {وَمَا أَدْرَاكَ} تأتي: للتهويل والتعظيم، وتأتي للتعظيم والتکريم؛ فالتهويل مثل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}، وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}، وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}، وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}، وللتعظيم والتکريم مثل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، يعني أن فضلها وشرفها أکبر ممّا يتصور الإنسان، وأجل ممّا يحيط به عقله من حيث العطاء الإلهي الذي يحصل من الله جلّ وعلا لعباده المؤمنين في تلک الليلة.
ولعلّ قائلاً يقول: لماذا کل هذا التعظيم والتکريم لهذه الليلة؟ وهل هذه الليلة إلاّ کغيرها من الليالي؟ وهل ساعاتها إلّا کساعات غيرها من الساعات؟
الجواب: قال بعضهم: إنّ أجزاء الزمان والمکان بعضها أمثال بعض لا تفاوت بينها، فلا فضل لبعضها علی بعض إلّا بما يحصل فيها، فليلة القدر ليلة کالليالي، وإنما فضّلت بنزول القرآن فيها، وکذلک ليلة مولد الرسول|، وليلة إسرائه ومعراجه، وغير ذلک من الليالي.
وقال بعضهم: إنّ الله جلّ وعلا قد اقتضت حکمته أن يکون في کلّ شيءٍ من مخلوقاته فاضل ومفضول حتی في الزمان والمکان، والإنسان والحيوان، وغيرها؛ فليلة القدر لها فضل سابق علی غيرها من الليالي، وقد رضيها الله من أجل ذلک الفضل أن تکون ليلة نزول القرآن، وأنّ لشهر رمضان أيضاً فضلاً سابقاً علی غيره من الشهور، وقد رضيه الله من أجل ذلک أن تکون ليلة القدر ــ وهي ليلة نزول القرآن ــ من لياليه. فهي أشبه شيء بالإنسان بنوعيه؛ فإنّ منه الخبيث، ومنه الطيب، ولذا قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}.
وقال رسول الله|: «اختاروا لنطفکم فإنّ العرق دساس». فأمهات الأنبياء والأئمة^ لهنّ فضل سابق علی غيرهن من النساء، ومن أجل ذلک الفضل رضيهن الله جلّ وعلا أن يکنّ أمهاتٍ للأنبياء الطاهرين والأئمة المعصومين. کما أنّ الأنبياء والأئمة لهم فضل سابق على غيرهم من الناس؛ ومن أجل ذلک رضيهم الله جلّ وعلا للنبوة والإمامة. قال تعالى عن الأنبياء: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وقال تعالى عن الأئمة: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}؛ لأنّ الله جلّ وعلا حکيم لا يرجح الشيء بغير مرجح.
نعم، إنّ ذلک المرجح قد يخفی علمه علينا، ولکن عدم العلم بالشيء لا يدل علی عدم وجوده، کما تقدّم.
إذن فالزمان والمکان فيهما فاضل ومفضول، ويزيد فضلهما وشرفهما بما يحصل فيهما من الحوادث المشرفة، فليلة القدر وشهرها زادهما الله جلّ وعلا شرفاً بنزول القرآن فيهما، والليالي العشر زادها الله شرفاً بنزول التوراة فيها، ويوم بدر زاده شرفاً بنصر الإسلام علی الکفر، فصار يوم الفرقان، إلی غير ذلک من الليالي والأيام.
وکذلک يحصل للمکان مثل ما يحصل للزمان، وقد أخبر القرآن الکريم عن تفاوت الزماني فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}، وقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}. وقد أجمع الناس علی أنّ العظيم لا يقسم إلّا بعظيم. وکما أخبر عن تفاوت الزمان فقد أخبر جلّ وعلا عن تفاوت المکان فقال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلّا نَكِدًا}(). فإنّ معنی البلد الطيب يعني الأرض الطيبة، فإنّه يخرج نباتها طيباً؛ لطيبها، والبلد الخبيث يعني الأرض الخبيثة، فإنه يخرج نباتها خبيثاً؛ لخبثها.
وفي کتاب (سفينة البحار) عن کتاب (کنز الفوائد) عن جويرة بن مسهر الصيداوي، قال: أقبلنا مع أمير المؤمنين× بعد قتال الخوارج، حتى إذا صرنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر، فنزل أمير المؤمنين× ونزل الناس، فقال: «أيها الناس إنّ هذه أرض ملعونة وقد عذبت في الدهر مرتين، وهي تتوقع الثالثة، وهي إحدى المؤتفکات، وهي أول أرض عبد فيها وثن، وإنّه لا يحل لنبي أو وصي نبي أن يصلي بها، فمن أراد أن يصلي فليصل».
فمال الناس إلى جنبي الطريق يصلون، ورکب بغلته ومضى، فقلت: والله لأتبعنه، ولأقلدنه صلاتي اليوم. فمضيت خلفه، فوالله ماجزنا جسر سوراء حتى غابت الشمس، فنزل ناحية فتوضأ، ثم قام فنطق بکلام لا أحسبه إلّا بالعبرانية، فنظرت إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين، ولها صرير، فصلى العصر وصليت معه، ولما فرغنا من صلاتنا عاد الليل کما کان. وفي ذلک يقول السيد الحميري&:
ردت عليه الشمس لما فاته |
وقت الصلاة وقد دنت للمغربِ |
|
وعليه قد ردت ببابل مرة |
اُخرى ولم ترجع لخلق معربِ |
|
إلاّ ليوشع أو له من بعده |
ولردها تفسير أمر معجبِ |
ولکن البعض من المسلمين يؤمنون برجوعها ليوشع ويکفرون برجوعها لعلي×:
وقال تعالی: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}، وقال تعالی: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}. وقدم تقدم أنّ العظيم لا يقسم إلّا بعظيم. وقد قال بعض المفسرين: إنّ القسم يعني مکة المکرمة، وإنه جاء موصوفاً بحلول الرسول| فيها إشارة إلی أن مکة بلدة مکرمة، وزادها شرفاً علی شرفها، وکرامة علی کرامتها حلولُ الرسول| فيها.
وهکذا يزداد الشريف شرفاً، والکريم کرامة بما يحصل له أو يحدث فيه، ومن ذلک مکة مکرمة والأرض المقدسة ــ وهي أرض الشام ــ قال تعالی حکاية عن نبيه موسی بن عمران× أنه قال لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}. والقداسة تعني الطهارة. قالوا: وکان معاوية يفخر بسکناه في هذه الأرض، فدخل عليه جماعة من أهل العراق وفيهم صعصعة بن صوحان العبدي (المولود بدارين تاروت سنة 14 قبل الهجرة النبوية المبارکة، والمتوفى بالبحرين سنة 56 عن عمر ناهز السبعين، وکان حينئذٍ قد استوطن الکوفة)، فقال معاوية: مرحباً بکم يا أهل العراق، قدمتم الأرض المقدسة، منها المنشر وإليها المحشر، قدمتم علی خير أمير يبر کبيرکم، ويرحم صغيرکم. ولعمري لو ولد أبو سفيان الناس کلهم لکانوا حلماء عقلاء کرماء. فقال له صعصعة: أما قولک: إنّا قدمنا الأرض المقدسة، فلعمري إنّ الأرض لا تقدس أهلها وإنّما تقدسهم الأعمال الصالحة. وأما قولک: منها المنشر وإليها المحشر فلعمري لا ينفع قربها کافراً ولا يضر بعدها مؤمناً. وأما قولک: ولو أنّ أباسفيان ولد الناس کلهم لکانوا عقلاء حلماء کرماء، فلعمري لقد ولد الناس من هو خير من أبي سفيان ــ وهو آدم ع ــ فمنهم العالم والجاهل، والسفيه والعاقل والکريم واللئيم. فلم يرد عليه معاوية بشيء.
ومن ذلک ــ أي ومن البقاع المقدسة ــ «طوی» الذي خاطب الله فيه نبيّه موسی ع فقال له: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}. وفي کتاب (الأنوار العلوية) للشيخ جعفر النقدي (المتوفى بتاريخ 9/1/1360هجرية) قال: سمعت مذاکرةً أن السلطان مراد العثماني قام بجولة في العراق في أيام ملکه لها، فلما قرب من النجف الأشرف ولاحت القبة الشريفة إلی أعين بعض من معه ترجل بعض الوزراء الذين معه ــ وکان يتشيع في الباطن ــ فسأل السلطان عن سبب ترجله، فقال: إنّ علي بن أبي طالب هو أحد الخلفاء الراشدين، فلما رأيت قبته نزلت إجلالاً له. فقال السلطان: وأنا أنزل أيضاً. فقال بعض من معه من النواصب: إن کان علياً خليفة، فأنت أيضاً خليفة، والحي أفضل من الميت. فتردد السلطان، ثمّ تفأل بالقرآن الکريم فکانت الآية: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}. فترجل واحتفی، وأمر بضرب عنق ذلک الناصبي، وأنشد هو أو بعض من معه هذين البيتين:
تزاحم تيجان الملوک ببابه |
ويکثر عند الاستلام ازدحامها |
|
إذا ما رأته من بعيد ترجلت |
وإن هي لم تفعل ترجل هامها |
أقول: ولعل السلطان مراد هذا هو السلطان الرابع من ملوک الدولة العثمانية المتوفی سنة 1640 م؛ لأنه الذي انتزع بغداد من يد الدولة الفارسية کما في کتاب (المنجد) والله تعالی أعلم. ورحم الله المقدس الشيخ حسناً التاروتي المتوفي سنة 1350 هجرية حيث يقول:
إذا لمعت نار طور الغري |
فأنت بوادي طویً فاخلعِ |
|
وصلِّ وسلِّم وصل واستلم |
لقدس أبي الحسن الأنزعِ |
وکما حصلت زيادة الشرف للنجف الأشرف بأمير المؤمنين ع، فقد حصلت زيادة الشرف للمدينة المنورة برسول الله| وأهل بيته الطاهرين ع حتی إنّ بعض الفقهاء يحرّم صيد صيدها وقطع شجرها کمکة المکرمة. کل ذلک زيادة علی شرفها السابق؛ لأنّها من البلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربّه طيباً؛ فهي ذات أشجار وأنهار، ونخيل وأعناب، وغير ذلک.
وکذلک کربلاء المقدسة فإنها أرض خصبة أيضاً غنية بالفواکه والخضراوات حتی إنها تعدّ المرکز الثاني بالعراق لإصدار التمور والفواکه العراقية بعد البصرة. وقد زادت شرفاً علی شرفها بأن جعلها الله بقعة من بقاع الجنة، ولا سيما بعد أن حلّ بها رکب الحسين×، واُريقت عليها دماؤه، وتبدَّدت عليها أشلاؤه.
قال المرحوم الدربندي (المتوفى 1286 هجرية) في کتابه (أسرار الشهادة) ما ملخصه: إنّ من أعجب ما سمعت أنه جاء إلی سلطان من السلاطين الصفويه (رحمهم الله) سفير من عند ملک إلإفرنج، وکانت له حذاقة في علم الرياضة والهيئة، والحساب والنجوم، وغير ذلک من العلوم؛ حتی إنّه کان بما يحسن من تلک العلوم يستطيع أن يخبر بعض الناس عمّا حصل لهم، وما سيجري عليهم فيما بقي من أعمارهم، فأمر السلطان الصفوي بإحضار بعض العلماء المعاصرين ممّن کان لهم يد في بعض تلک العلوم، فاُحضروا، وکان منهم المحدث الکاشاني صاحب کتاب (الصافي) وکتاب (الوافي) المتوفى سنة 1091 هجرية. وبعد حوار جرى بينه وبين السفير طلب السفير منه دليلاً وجدانياً تصدقه العلوم الرياضية يدل علی صدق نبوة الرسول محمد|، فعند ذلک أدخل الشيخ يده في جيبه، ثمّ أخرجها مقبوضة، وقال للسفير: أخبرني عمّا في يدي.
فأخذ السفير يفکر نحو نصف ساعة، ثمّ تغير لونه، وأصابه نوع من الارتباک، فسأله الشيخ عن سبب ما حصل له، فأخبره أنّ ذلک لا لسبب عدم العلم بما في يده فإن العلم به قد حصل، وإنّما الذي حصل له بسبب عدم العلم بأنّه کيف حصل علی هذا الشيء؛ لأنه شيء من تراب الجنة. فقال له الشيخ: إنّ الذي في يدي تربة من تراب کربلاء، وقد أخبرنا نبينا محمد| عنها أنّها بقعة من بقاع الجنة، فهل لک بعد ذلک حجة في عدم الإيمان بنبوته|، مع أنک قاطع بأنّ قواعد حسابک لا تتخلف عن معرفة الواقع؟
وأراه التربة المبارکة، فقال له السفير: صدقت. وأسلم علی يده. فلله هذه التربة ما أعظم برکتها! وکيف لا تکون کذلک وقد أهرقت عليها دماء ذرية رسول الله|، وتناثرت عليها أشلاؤهم؟
وقد روي في کتاب کامل الزيارات أنّ جبرئيل ع قال لرسول الله ص: «إنّ الحسين ع يقتل بأرض يقال لها: کربلاء، وإنها من بطحاء الجنة».
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.