سورة العلق / 1
قال تعالی: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾
قال أكثر المفسرين: إنّ هذه الآية الكريمة والآيات الأربع التي بعدها هي أول ما نزل على الرسول| من القرآن الكريم وكان يومئذٍ بغار جبل حرى؛ لأنّه كان لا يحب الحياة مع قريش لما هم فيه من الجاهلية الجهلاء؛ فكان يخرج إلى غار جبل حرى ويتعبد فيه بما وفقه الله له من العبادة وإذا نفد زاده نزل إلى بيته. قتعمل له خديجة شيئاً من الزاد فيرجع به إلى غار جبل حرى وهكذا.
قال أمير المؤمنين(ع) في بعض خطبه: «وقد وكل الله به| من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره».
وما زال علی هذا حتى شاء الله أن يبعثه بشيراً و نذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبدأ يرى الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ بدأ يسمع الصوت ولا يرى الشخص، ثمّ تجلى له جبرئيل فقال له: أنا جبرئيل وأنت رسول الله ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ إلى نهاية خمس آيات. ثمّ ركل الأرض برجله فنبع الماء وقال: اجلس فتوضأ، ففعل ذلك، ثمّ صلی معه ركعتين وقال له: «الصلاة هكذا وذهب عنه».
قالوا: ومن هذه الصلاة صحّ أن يقال: إنّ هذه الآيات الخمس هي أول ما نزل آيات من القرآن، وإنّ سورة الفاتحة هي أول سورة نزلت بكاملها منه؛ وذلك لما ورد عنه| أنه قال: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب». وانصرف جبرئيل من عنده وقد انتقشت تعاليمه في قلبه لفظاً ومعنى.
أمّا معنى الآيات الكريمة فإنّها تقول (اقرأ)، يعني اقرأ يا محمد ما أقرأه عليك. وحينئذٍ فلا مكان لما رواه البعض من أنّه| لمّا قال له جبرئيل: (اقرأ) قال: إنّي لست بقارئ، يعني أنّي رجل اُمّي لا أحسن القراءة، فضمّه جبرئيل حتى بلغ به الجهد ثمّ أطلقه وقال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ، فضمّه ثانية حتى بلغ به الجهد ثمّ أطلقه فقال له: (اقرأ)، قال: لست بقارئ، فضمّه ثالثةً حتى بلغ به الجهد ثمّ أطلقه وقال له: (اقرأ) فقرأ. هذا كله لا داعي له لأنّه قال له: اقرأ ما تسمعه منّي ولم يقل له اقرأ ما في هذه الصحيفة حتى يصح منه أن يعتذر.
نعم، هناك من يقول: إنّه جاءه بصحيفة وقال له: اقرأ في هذه الصحيفة. وعلى هذا القول يكون الأمر بالقراءة تكوينياً وليس تكليفياً، فمعناه كن الآن قارئاً وإن لم تكن كذلك من قبل، فإنّ الله سبحانه قد جعلك الآن قارئاً من باب ﴿كُنْ فَيَكُون﴾.
ويسند بعضهم هذا القول إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾([1])، ويرى أنّ الآية إنّما قالت: ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ إشارة إلی أنّه كان من بعد ذلك قادراً على القراءة والكتابة، والله أعلم بحقائق الأمور.
وأمّا قوله تعالى: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، فقال بعضهم: إنّ معناه اقرأ مبتدئاً قراءتك باسم ربّك، وعلى هذا تكون الباء للإبتداء.
وقال بعضهم: إنّ معناه اقرأ مستعيناً على قراءتك باسم ربّك، وعلى هذا تكون الباء للاستعانة.
وقال بعضهم: إنّ معناه اقرأ على الناس ما يوحى إليك باسم ربّك لا باسمك وله لا لك فما أنت إلّا رسول مبين، وعلى هذا المعنى تكون الباء للبيان والإخبار.
قال بعضهم: ولعل سليمان بن داود(ع) أراد هذا المعنى من كتابه إلى بقليس وإنّ بلقيس قد فهمت هذا المعنى من كتابه حيث إنّه دعاها فيه إلى الإسلام لا إلى الاستسلام فقالت: ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾، يعني أنّه كاتبه ومرسله ولكنه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾([2]).
قيل: وهذا المعنى هو أفضل المعاني الثلاثة؛ لأنّه يكشف عن مقام الإقرار لله جلّ وعلا بالعبودية؛ فإنّ العبد لا يعمل عمله الذي أراد منه سيده مبتدئاً له باسم سيده فقط أو مستعيناً عليه باسم سيده فقط وإنّما يعمله لسيده، ولذلك قال تعالى لنبيه الكريم محمد|: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾([3]).
والجميع يعلم أنّه ليس المراد من ذلك أن يقولوا وإنّما المراد أن يجعل كلّ شيء من أعماله في الحياة الدنيا، وأن يجعل ما يموت عليه من العقيدة كله له جلّ وعلا لا شريك له لأنّه عبد وكلّ ما يعمل العبد فهو لسيده. ولا شك أنّ هذا أمر عام له ولغيره، فعلينا أن نعرف واجبنا ونجعل أعمالنا لربنا لا لغيره. اللهمّ ثبتنا على دينك ما أحييتنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا يا أرحم الراحمين.
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.