خطبة الجمعة 23/6/1434هـ – الطريق الثالث للوصول إلى الله : التفكر
الحمد لله الذي يؤمن الخائفين، وينجي الصالحين، ويرفع المستضعفين، ويضع المستكبرين، ويهلك ملوكا ويستخلف آخرين. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وأمينك وصفيك، وحبيبك من خلقك، وحافظ سرك، ومبلغ رسالاتك، أفضل ما صليت على أحد من خلقك وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نكون من الذاكرين، اذكروه يذكركم، ويكفر خطاياكم، وينير قلوبكم. قال تعالى: {كذالك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.
تحدثنا عن الطريق الأول وهو: تزكية النفس، والطريق الثاني وهو: الملازمة والصحبة. والأمر الثالث الذي نتحدث عنه في طريق الوصول إلى الله هو: التفكر.
معنى الفكر لغتا:
يقال فكر فكرا، فكر في الأمر أي أعمل الخاطر فيه وتأمله. والفكر تردد الخاطر بالتأمل والتدبر بطلب المعاني. أي ما يخطر بالقلب من المعاني. والفكر إعمال الخاطر في الأمر. كما في المنجد.
وفي لسان العرب: التدبر والتأمل والتفكر، عبارات مترادفة ليس تحتها معان مختلفة، وهي على معنى واحد. وعلى هذا يمكن القول: إن الفكر إعمال الخاطر بالتأمل والتدبر والنظر والروية في أمر من الأمور للوصول إلى معرفة حقيقته.
معنى الفكر اصطلاحا:
وهو لا يختلف عن المعنى اللغوي فمعناه كما في المعجم الوسيط هو: حقيقة إعمال الخاطر في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول. وفي إحياء العلوم: هواستحضار معرفتين في القلب للتوصل إلى معرفة ثالثة مجهولة.
وعلى هذا يتبين أن هناك فرق بين التقليد والتفكير، فالتقليد سماع الشيء واتباعه من غير بصيرة بحقيقة الأمر. أما المفكر فهو الذي يتأمل بمعرفة ويتدبر ويعمل كافة قواه في ذاته، حتى يستنتج معرفة المجهول، وعلى هذا يكون المفكر مبتدعا ومبتكرا لا متبعا أو مقلدا.
مجال الفكر وقيوده
كل المخلوقات مجال للتفكر والتأمل والتدبر لأن العبادة الحقيقة هي الفكر كما جاء عن رسول الله (ص): (تفكر ساعة خير من عبادة سنة) وقال: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة) وقال: (عودوا قلوبكم الترقب وأكثروا التفكر والاعتبار) وقال : (فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة) فإذا أراد السائر في طريق الوصول إلى الله، أن يصل إلى عظمته سبحانه، عليه أن يكون مفكرا ومتدبرا ومتمعنا في عظمة الله جل وعلا؛ لأن هذا التفكر والتأمل خير عبادة.
هذا وقد حثنا الدين على إعمال الفكر؛ لأنه طريق إلى معرفة عظمة الخالق سبحانه؛ ولأنه من أعظم الطرق الموصلة إلى الله جل وعلا، وأكثر ما حثنا عليه الشارع المقدس تنظيم عملية التفكير، فأمرنا أن نستفيد منه في التفكير في خلق الله، ونهانا عن التفكير في ذات الله سبحانه ورؤيته، كما أخبرنا القرآن عن قصة موسى (ع). وفي مقابل ذالك قصة إبراهيم الذي استعاض عن الهيئة بالقدرة فسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ولم يطلب منه رؤيته سبحانه.
وإلى هذه المعاني أشارت الأحاديث الشريفة، قال رسول الله (ص): (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق …) وقال: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله).
المخلوقات المفكرة
من عظمة الخالق سبحانه هناك مخلوقات ثلاثة لها ريادة الفكر، وهي موضع تكليفه جل وعلا. وهي: الملائكة والجن والأنس.
النوع الأول: الملائكة. فالملائكة من المخلوقات النورانية اللطيفة التي انتزعت منها الشهوة، وهي مفطورة ومجبولة على طاعة الله تعالى، ولها مهام شرفها الله بالقيام بها، وقد أشار القرآن الكريم إلى العديد منها. قال سبحانه: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} وقال سبحانه: {يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} وقال سبحانه: {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض}.
النوع الثاني: الجن. وهم مخلوق عاقل ومفكر، وهم موضع التكليف من الله سبحانه، وهم أول مكلف استعمر الأرض. قال تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} وقال سبحانه: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس}.
النوع الثالث: الإنسان. وهذا هو المخلوق الذي كرمه الله سبحانه وفضله، وحذره من اتباع الشيطان الذي غوى أبينا آدم (ع). قال سبحانه: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} ونبهنا القرآن الكريم إلى أن الإنسان في الآخره يجني ماعملت يداه. {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} وقال سبحانه: {ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب}.
إن إعمال الفكر بصورة صحيحة يقود إلى الجنة، وتعطيل الفكر يؤدي إلى النار. {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}. وقال سبحانه: {كذالك نفصل الآيات لقوم يعقلون} وقال سبحانه: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها}
فعلينا أن نفكر في آيات الله سبحانه وأن نعمل النظر، لكي نستطيع أن نسلك طريق الوصول إلى الله جل وعلا، فكم من عاص هام في تمرده على ربه، ولم ينقذه إلا التفكر الذي أوصله إلى التوبة والاستغفار، فعلينا أن نلتفت ونتفكر في مواعظ القرآن الكريم، والقصص والأمثال التي ذكرها لتنبيه عقولنا من الغفلة والسبات. قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.
وسائل التفكير
يمتلك الإنسان خمس وسائل للتفكير، ولو ألقينا نظرة بسيطة حول الإنسان، لوجدنا أنه يمتلك الكثير من الإمكانيات والطاقات العظيمة التي تعينه وتوصله إلى الحياة الفاضلة في وجوده. ومن تلك الأشياء ما يمتلكه من القوى الخمس التي خلقها الله في كل كائن مفكر والتي تتم بها عملية التفكر مع اللاختلاف النسبي فيما بينها.
إن كل قوة من هذه القوى لها دور في عملية التفكير كما نستفيده من الآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة، وهذه القوى هي: القلب والعقل والروح والنفس والحواس الخمس. قال تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} وقال تعالى: {إن في ذالك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} وقال تعالى: {إلا من أتى الله بقلب سليم}.
فكل ما استطعنا أن نحافظ على ارتباط القلب بالله سبحانه، فإننا بذالك نستطيع الوصول إلى الله بسهولة ويسر. فعلينا أن نجنبه قذارة الذنوب والمعاصي وأن نهتم بجانب التخلية ثم نهتم بجانب التحلية، حتى يستطيع القلب أن يرتبط بالله تعالى بطهر واطمئنان، ولا يمكن ذالك إلا إذا جعلنا محيط القلب مطوقا بذكر الله تعالى. {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. فذكروا الله يذكركم، ويغفر ذنوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، وقولوا: لا إله إلا الله تفلحوا.
قال الإمام الصادق (ع): (القلب السليم وهو الذي يلقى الله وليس فيه أحد سواه) أما من شغل نفسه بالذنوب ومعصية الخالق فلا شك أنه يظلم قلبه، حيث أن القلب كما هو محل للخشوع فهو محل للرين والظلمة أيضا. قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وقال الإمام الباقر (ع): (إذا أذنب الرجل خرجت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإذا أذنب زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا).
إذن الذنوب تظلم القلب، وإذا أظلم فإن الإنسان يرى الأشياء على غير حقيقتها، ولا يمكن له أن أن يكون متزنا أو مبصرا أو مفكرا بالشكل الصحيح، إلا إذا تاب وانمحت تلك الظلمة وذهبت تلك الغشاوة، وارتفعت تلك الحجب عن قلبه، التي قطعت الاتصال بينه وبين خالقه عز وجل.
فإلى متى يعود العبد الآبق إلى ربه، وإلى متى يعلن التوبة عن معاصيه، ألا يستحي من الله تعالى، ألا يخشع قلبه لجبروت خالقه، وكيف يمكن أن يتمرد العبد الحقير على خالقه القدير، وهو ذالك الكائن الضعيف الذليل، الذي لا يملك لنفسه حولا ولا قوة. قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}.
إن النتيجة التي يسير لها من لم يفكر في عاقبة السوء هي جهنم والعياذ بالله. قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} لأن هذه القلوب هي محل التفكر والتدبر {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}.
من هنا علينا أن نحافظ على قلوبنا حتى تتوجه إلى الله تعالى بطهر ونقاء، ومن أجل أن تدرك الحقائق الموصلة إلى معرفة عظمة الخالق جل وعلا، يقول علي (ع): (يا كميل إن القلوب أوعية وخيرها أوعاها) فإذا وعيت القلوب توجهت لذكر الله سبحانه؛ لتكون حية وعامرة بذكره متجنبة معصيته والغفلة عنه سبحانه. يقول علي (ع): (من قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار).
اللهم نبهنا من نومة الغافلين، وتوفنا مسلمين، واغفر لنا يوم الدين، {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} والحمد لله رب العالمين.
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.