حدث في مثل هذا اليوم (18 ذي الحجة)

وفيه من سنة 10 من الهجرة وصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غدير خم راجعاً من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد قضاء مناسك حجه في حجة الوداع، فلما وصل إلى خم أُمر أن ينصب علياً (عليه السلام) علماً للناس، وأنزل عليه في ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾^([1]). فقال: «تهديد وتوعيد؟ لأُمضين أمر ربي».

ثم أمر الناس فاجتمعوا، وصعد منبره الذي جمعوه له من حدوج الإبل وكورها، وخطب خطبة بليغة، ثم نادى في الناس: «أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم؟». قالوا: بلى يا رسول الله. فأخذ علياً (عليه السلام) معه، ورفع يده بيده وقال: «فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدِر الحق معه حيثما دار». وقد نظم الحادثة شاعر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حسان بن ثابت فقال:

يناديهُمُ يوم الغدير نبيهم *** بخُمّ وأسمِع بالنبي مناديا
وقد جاءه جبريل عن أمر ربّه *** بأنك معصوم فلا تكُ وانيا
وبلغهُمُ ما أنزل الله ربهم *** عليك ولا تخشَ هناك الأعاديا
فقام به إذ ذاك رافع كفه *** بكف علي معلن الصوت داعيا
وقال فمن مولاكُمُ ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت ولينا *** ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فانني *** رضيتك من بعدي إماما وهاديا
هناك دعا اللهم والِ وليَّه *** وكن للذي عادى عليا معاديا

قالوا: وفي ذلك المقام نزلت: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾^([2]) . وحينئذٍ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الحمد لله على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي وولاية علي (عليه السلام)».

***

قالوا: وفيه من سنة 35 هجرية استشهد الخليفة ذوالنورين عثمان بن عفان وقد تقدم أن هناك من يقول بشهادته في 12 ـ أو 13 ـ من هذا الشهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

وفيه بويع للإمام علي (عليه السلام)، وقد قال في خطبته الشقشقية: «فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها. أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز».

***

وفي هذا اليوم من سنة 390 هجرية توفي بالنهروان القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى الجريري النهرواني، العالم الفاضل، الفقيه النحوي اللغوي، الذي قيل في حقه: إذا حضر القاضي أبو الفرج، فقد حضرت العلوم كلها. وقال بعض العلماء: لو أوصى رجل بأن يدفع شيء من ماله إلى أعلم الناس، لأفتيت بأن يدفع إلى أبي الفرج النهرواني. قالوا: وكان كثير الرواية إلى الأحاديث التي يميل إليها الشيعة، وله مصنفات ممتعة، منها كتاب (الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي). وله أشعار جيدة، ومنها قوله:

مالك العالمين ضامن رزقي *** فلماذا أُملّك الخلق رقّي
فكما لا يردّ عجزي رزقي *** فكذا لا يجرّ رزقي حذقي

ومنها قوله في ذم الحسد والحاسد:

ألا قل لمن كان لي حاسدا *** أتدري على من أسأت الأدبْ
أسأت على الله في فعله *** لأنك لم ترضَ لي ما وهبْ
فجازاك عنه بأن زادني *** وسدّ عليك وجوه الطلبْ

وقد تقدم أنه ـ رحمه الله برحمته ـ توفي بتاريخ 12/ 12.

***

وفيه من سنة 487 هجرية توفي بالقاهرة المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله ـ المتوفى بتاريخ 15 /8/ 427 هجرية ـ ابن الحاكم بأمر الله بن المعز لدين الله الفاطمي. وقد جرى للمستنصر هذا ما لم يجرِ لغيره من الخلفاء، ومن ذلك أنه ولي الأمر وهو ابن سبع سنين، ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته، ولا من بني العباس، ولا من بني أمية، ولا غيرهم. رحمه الله برحمته.

***

وفي هذا اليوم من سنة (492) ـ على ما جاء في كتاب (الكنى والألقاب) ـ أوسنة 750 ـ على ما جاء في (الغدير) ـ توفي بالحلة علي بن عبد العزيز الخلعي الموصلي. ولعل هذا اللقب لأكثر من واحد، فوقع الاشتباه بينهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال صاحب (الكنى والألقاب): ذكر القاضي نور الله في (المجالس في شعراء الشيعة) جمال الدين الخلعي الموصلي، ولم يذكر اسمه ولا عصره وذكر أن والديه كانا ناصبيين، ولم يكن لهما ولد ذكر، فنذرت أمه إن ولد لها ذكر أن تبعثه لقطع طريق السابلة من زوار الحسين (عليه السلام). فلما ولدته، وبلغ أشده بعثته أمه إلى جهة نذرها، فلما بلغ إلى نواحي المسيب طفق ينتظر قدوم الزائرين ليقوم بما يقوم به أمثاله من النهب والسلب والقتل، ولكنه لما سبق له في علم الله من السعادة غلب عليه النوم العميق، ولم يعد ينتبه لشيء مما يمر به، فاجتازت عليه القوافل، وأصابه القتام الثائر من عَدْوِها، ورأى في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأنه ألقي في النار، ولكن النار لم تمسه؛ لما على جسمه من ذلك الغبار  الثائر من قوافل الزائرين، فانتبه مرعوباً، وعدل عن ماجاء له، ومضى إلى زيارة الحسين (عليه السلام)، ونظم البيتين المشهورين:

إذا شئت النجاة فزر حسيناً *** غداً تلقى الإله قرير عينِ
فإن النار ليس تمسّ جسماً *** عليه غبار زوار الحسينِ

ثم واصل مدايحه ومراثيه. رحمه الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته.

***

وفيه من سنة 672 هجرية توفي في بغداد محمد نصير الدين الطوسي الذي قيل فيه: إنه استاذ البشر، والعقل الحادي عشر، وإنه أعلم علماء القرن السابع، وأشهر مؤلفيه، فقد ألف ما يقارب من مئة وتسعين كتاباً في جميع فنون العلم، وإنه هو الذي جمع شمل الإسلام والمسلمين بعد الشتات، وتداركهم من أيدي التتار بعد أن أشرفوا على الفوات؛ لأنه استطاع بعقله الكبير، وعلمه الغزير أن يقنع هولاكو ـ عندما ابتلي بصحبته، ووقع في مخالبه ـ أن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية، والتصرف في مواردها. ولما وافقه على ذلك قام بفتح المدارس للفقه والطب والفلسفة؛ ليطور المسلمين عمّا هم عليه من الجمود على الفقه، وليكسب بذلك رضا دولته التي لا ترضى بأن تخصص خدماتها للفقه الإسلامي، وهي غير مقتنعة بالإسلام حتى ذلك الوقت، وبمرونته في هذا الباب؛ فقد جعل لطالب الفلسفة ثلاثة دراهم، ولطالب الطب درهمين، ولطالب الفقه درهماً واحداً فأقبل الناس على المعاهد العلمية والمدارس الفقهية إقبالاً باهراً، وراجت سوق العلم.

وبسبب ذلك استطاع أن ينعش كثيراً من العلماء، وأن يستنقذ كثيراً من الكتب التي أرادت الدولة إعدامها، حتى كوَّن مكتبة بمراغة لم تحلم الدنيا بمثلها؛ فقد جمعت تلك المكتبة نحو أربعمئة الف كتاب.

ثم أخذ يفكر في وسيلة يجمع بها شتات العلماء أكثر وأكثر، فحاول أن يقنع هولاكو بأن يبني له مرصداً تاريخياً خالداً ينسي الناس كل مرصد في الدنيا، فلما رضي هولاكو بذلك أخذ يضخم أمر المرصد في عينه، ويخبره بأنه عمل جبار، وأنه يحتاج في بنائه إلى أعوان من أهل الكفاءة والمقدرة والعلمية. وطلب منه أن يأذن له في استجلاب الأكفاء من داخل الدولة وخارجها.

فلما أذن له بذلك اختار لهذه المهمة لقمان بن عبد الله المراغي العالم الكبير، وعهد إليه أن يطوف بالبلدان، ويؤمن العلماء الذين هربوا خوفاً من الدولة، ويستجلب غيرهم من أهل الكفاءة العلمية والعملية. ففعل ذلك، وجعل العلماء يتوافدون على مراغة واستمر العمل في بناء ذلك المرصد بإشراف نصير الدين اثنتي عشرة سنة، واستطاع نصير الدين بعد ذلك أن يعلن بأن لهذا الكون ملكاً يملكه، وأن له دستوراً يعمل به ـ وهو القرأن الكريم ـ واستطاع أن يسند كل ما في الإسلام من عقائد وأعمال إلى أدلة عقلية وبراهين علمية.

وبالجملة، فإنه (رحمه الله) لم يمت حتى استطاع أن يقنع التتار بالإسلام، وأن يفتح قلوبهم لقبوله؛ فمنهم من قال: إن هولاكو أعلن إسلامه في حياة الطوسي (رحمه الله)، ومنهم من قال: إن هولاكو هلك على كفره وإلحاده، وخلفه ولده «إيقاخان»، ومات على ما مات عليه أبوه، وخلفه أخوه تكودار. ومضى الطوسي إلى رحمة ربه ببغداد، ودفن عند الإمامين الكاظميين الجوادين (عليهما السلام) بتاريخ 18/ 12/ 672 هجرية، وخلفه تلميذه، وأقرب المقربين إليه قطب الدين أبوالثناء محمود بن مسعود الشيرازي ـ المتوفى سنة 710 هجرية ـ وكان من بحور العلم، فنهض بالعبء على ما أراده نصير الدين (رحمه الله)، وعلى يده أعلن (تكودار بن هولاكو) إسلامه، وسمَّى نفسه أحمد، وتحولت الدولة بكاملها من وثنيين إلى مسلمين ببركة نصير الدين الطوسي، وما بذله من جهود متواصلة. رحمه الله برحمته؛ فلقد ابتلي فصبر، وصابر فظفر، وكان عمره الشريف خمساً وسبعين سنة؛ فقد كان مولده في 11 /5/ 597، ووفاته في 18/ 12 سنة 672 هـ. ومن شعره&:

لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً *** وود كل نبي مرسل وولي
وصام ما صام صواماً بلا ضجر *** وقام ما قام قواماً بلا مللِ
وحج ما حج من فرض ومن سنن *** وطاف ما طاف حافٍ غير منتعلِ
وطار في الجو لا يأوي إلى أحد *** وغاص في البحر مأموناً من البللِ
يكسو اليتامى من الديباج في حللٍ *** ويطعم البائسين البُّر بالعسلِ
وعاش في الناس آلافاً مؤلفة *** عارٍ من الذنب معصوماً من الزللِ
ما كان في الحشر عند الله منتفعاً *** إلّا بحب أميرالمؤمنين علي

ومن شعره (رحمه الله):

إذا فاض طوفان المعاد فنوحُه *** علي وإخلاص الولاء له فلكْ
إمام إذا لم يعرف المرء قدره *** فليس له حج وليس له نسك
فاقسم لو لم يُلف رطبا بمدحه *** لساني لم يصحبه في فمي الفك
ولو لا منى فيه أبي لم أقل أبي *** وحاشا أبي أن يعتريه شك

وقد أرخ بعضهم عام مولده، وحدد مدة عمره بحساب الحروف الأبجدية فقال:

ثم نصير الدين جده الحسنْ *** العالم النحرير قدوة الزمنْ
ميلاده (يا حرز من لا حرز له) *** وبعد (داعٍ) قد أجاب سائله

رحمه الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته.

***

وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر سنة 940 هجرية توفي مروّج المذهب والملّة، ورأس المحقّقين الجلّة، شيخ الطائفة في زمانه، وعلامة عصره وأوانه، الشيخ الأجل، نور الدين علي بن عبد العالي الكركي العاملي، الملقب بالمحقق الثاني؛ نظراً إلى أن المحقق الأول هو نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي ـ المتوفى بالحلّة يوم الخميس 13 /4/ 676 هجرية ـ والشيخ الكركي هو الذي استدعاه الملك طهماسب الصفوي ـ المتوفى سنة 984، والذي عاش في الملك (54) سنة ـ وفوض إليه ـ رحمه الله ـ أمر الدولة، وقال له فيما قال: أنت أولى مني بالملك؛ لأنك نائب الإمام حقاً، وأنا عامل منفّذ. وكتب إلى جميع الولاة وأرباب المناصب بإطاعة الشيخ، والعمل بأوامره وتعاليمه.

فكان هذا الشيخ (رحمه الله) يطبق الشرع الشريف، ويقيم الحدود، وعيّن الأئمة للصلاة في المساجد، والمدرسين للتعليم في المدارس والوعّاظ للوعظ في المساجد والمجالس، وقمع المنكرات، ومنع الخمور والمسكرات، ودفع شرور المفسدين، وأقام أحكام الدين. رحمه الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته.

ويروى عنه أنه مات في مشهد الإمام علي (عليه السلام)، وقد زاد عمره على السبعين، وتوفي ولده وخليفته الشيخ عبد العالي الفقيه الكبير سنة 993 هجرية. رحم الله الجميع برحمته.

***

وفي هذا اليوم من سنة 1124 هجرية توفي العلامة الجليل، المولى محمد بن عبدالفتاح التنكابني، المشتهر بسراب، صاحب المؤلفات النافعة، ومنها كتاب (سفينة النجاة) في أصول الدين، وكتاب (ضياء القلوب)، ورسالة في عينية وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة، وأخرى في الرد على رسالة المولى الشيخ عبد الله التوني، إلى غير ذلك من الكتب والرسائل. وكانت وفاته بأصفهان، وقبره معروف بها في أواخر خيابان محلة خاجو متصلاً بمقبرة تخت فولاد، وله قبة عالية، وبناء رفيع. رحمه الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته.

***

وفي هذا اليوم سنة 1214 هجرية ـ الموافق عدّها لحروف كلمة (غدير) بحساب الجمَّل الأبجدي ـ هجم على كربلاء المقدسة نحو من اثني عشر ألف فارس من الأعراب الوهابيين، وكان أكثر أهلها يومئذٍ بالنجف الأشرف لزيارة يوم الغدير لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقتلوا من أهلها في مدة سبع ساعات ما يزيد على سبعة آلاف من النساء والرجال، والصبية والأطفال، وفيهم أيضاً عدد كثير من العلماء والطلاب، فكانت تلك الواقعة أشبه شيء بواقعة الحرة التي أوقعها مسرف بن عقبة المري بأهل المدينة سنة 62 هـ. وقد نظم فيها السيد علي ابن السيد سلمان النجفي (رحمه الله) قصيدة طويلة استنهض فيها الإمام المنتظر (عليه السلام) فقال فيها:

متى تقبل الرايات من أرض مكة *** أمامهُمُ نور يحيل الدجى فجرا
إلامَ التمادي يابن أكرم سيد *** وحتام فيها أنت متّخد سترا
أما كان فعل القوم منك بكربلا *** بمرأى أما كنت المحيط به خبرا
فها كربلا هذا ذبيح كما ترى *** وهذي وقاك الله مسلوبة خدرا
وأنت خبير بالرزايا وما جرى *** من القوم مما لم يدع بعده صبرا
مصائب أنستنا بكر طرادها *** علينا وأن لامستجار لنا شمرا
أحاطوا بنا من كل فج وأرهبوا *** فما أضيق الغبرا وما أبعد الخضرا

﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، و﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾.

***

في هذا اليوم المبارك من سنة 1214 هجرية ولد رئيس العلماء، وأستاذ الفقهاء، عملاق الفقه والأصول في الإسلام الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله). وقد تقدم شيء من الكلام عنه بتاريخ وفاته ـ 18 /6/ 1281 هجرية ـ وما نحب أن نتحدث به عنه ها هنا أنه ولد لأبوين كريمين جليلين، يرتفع نسبهما إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رض)، فأبوه الشيخ محمد أمين الأنصاري ـ المتوفى سنة 1248 هـ ـ وأمه بنت الشيخ يعقوب الأنصاري ـ رحمهما الله ـ وقد ولد بمدينة دزفول الإيرانية، وفي نعومة أظفاره بدأ دراسته، فختم القرآن، وتعلم الكتابة والقراءة على حفاظ بلده المشهورين، ثم توجه بهمته العالية نحو العلوم الدينية، فبدأ دراسته على يد أبيه وعمه الشيخ حسين الأنصاري المتوفى سنة 1253 هجرية.

ثم جعل يواصل الأسفار في طلب العلوم حتى جاء إلى كربلاء ـ حيث كان السيد محمد المجاهد نجل السيد علي صاحب كتاب (الرياض)، وشريف العلماء المازندراني ـ ثم إلى النجف ـ حيث كان المقدس الشيخ موسى كاشف الغطاء ـ ثم إلى ربوع إيران، فإلى بروجرد ـ حيث كان أسد الله البروجردي ـ وإلى أصفهان ـ حيث كان السيد محمد باقر الرشتي ـ وإلى كاشان ـ حيث كان الشيخ أحمد النراقي الذي رأى فيه الشيخ ضالّته المنشودة فبقي عنده أربع سنين ـ ثم عاد إلى بلده، ومنها إلى النجف سنة 1249 هجرية، حيث كان الشيخ علي كاشف الغطاء الذي تسلم الزعامة الدينية بعد موت أخيه الشيخ موسى كاشف الغطاء، فلازم درسه من سنة 1249 هجرية إلى سنة 1254 هجرية.

ولما توفي كاشف الغطاء ـ في هذا العام المذكور ـ جعل الشيخ يحضر عند فقيه الطائفة الشيخ محمد حسن الجواهري ـ صاحب كتاب (جواهر الكلام) ـ تيمناً وتبركاً. وبسبب ما أوضحه من بعض المسائل الفقهية، وما بيَّنه من بعض المشاكل الأصولية، علم الشيخ الجواهري أنه أعلم الموجودين، فلما مرض مرض الموت، ـ وكان قد علم من علماء الحوزة أنهم سيرجعون بعده إلى ولده الشيخ عبد الحسين الجواهري؛ فقد كان أهلاً ومحلّاً لذلك لولا وجود الشيخ الأنصاري؛ فان ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.

فأراد الشيخ أن يؤدي أمانته كاملة للعلماء، وإلى مَن وراءهم من سائر الناس، فأمر بإحضار العلماء الأعلام عنده، فحضروا ما عدا الشيخ الأنصاري، فطلب الشيخ منهم أن يحضروه ـ ولو بذلوا المستحيل في تحصيله ـ فلما أحضروه قربّه وأجلسه عند رأسه، وهو مسجي على فراش الموت، وأخذ يده ووضعها على صدره، وقال: الآن طاب لي الموت، هذا مرجعكم بعدي. ثم قال له: قلل من احتياطاتك يا شيخ؛ فان الشريعة سمحة سهلة.

وفارق الحياة (رحمه الله) ـ وذلك بتاريخ 1 /8/ 1264 هجرية ـ وعندما أراد الناس الرجوع إلى الشيخ الأنصاري رفض المرجعية، وقال: إني لست أهلاً لذلك؛ لأن تقليد الأعلم في نظري واجتهادي واجب، ولعل هناك من هو أعلم مني. فقالوا: ومن تعني بذلك؟ فقال: لما كنت في درس شريف العلماء بكربلاء المعلَّى كان أحد زملائي ـ واسمه سعيد العلماء ـ أدق مني في فهم البحوث الفقهية، والاطّلاع على المسائل الأصولية، وقد ذهب إلى إيران.

فالتمسوه أن يكتب إليه، فكتب إليه بما معناه: إن صاحب (الجواهر) قد توفي، وإني أعتقد فيك ـ بحسب ما عرفته عنك في دروسنا عند شريف العلماء ـ أنك الأعلم، فالواجب تقليدك والسلام.

فأجابه سعيد العلماء: كنت كذلك، ولكن بعد انصرافي عن الدرس والتدريس، واشتغالي بمهام الأمور، واستمرارك أنت في ذلك، فأنت الأعلم، والواجب على الطائفة تقليدك والسلام. ولما ورد عليه الكتاب بكى واستسلم للأمر الواقع.

وقد روى الثقات عن سادن الروضة العلوية المطهرة أنه ذهب إلى الروضة ذات ليلة قبل الفجر، وإذا هو يسمع البكاء عند الضريح المقدس، فجاء وإذا هو يرى الشيخ الأنصاري واضعاً وجهه على الشباك، وهو يتوسل إلى الله بالإمام (عليه السلام) بلسانه الدارج، ويقول: مولاي إن الموقف خطير، وأريد منك أن تكون شفيعي إلى الله أن يحفظني من الزلل، وإلّا هربت عن هذه المسؤولية. فما أعظم هذا الشيخ! رحمه الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته.

***

وفي هذا اليوم ـ 18/ 12 ـ من سنة 1274 هجرية ولد في الكاظمية الشيخ الميرزا إبراهيم بن الميرزا إسماعيل بن المولى زين العابدين السَّلماسي ـ نسبة إلى سلماس، بفتح السين ـ: مدينة مشهورة في آذربيجان. قال عنه الأمين في (الأعيان): إنه كان عالماً فاضلاً، عارفاً بالفروع والأصول، والمعقول والمنقول، جيد التقرير، صالح السريرة، حسن الخلق، صريحاً في الرأي، ثابتاً على المبدأ، ناصراً للحق وأهله. وكان يؤم الناس في صحن الكاظمية، ويصلي خلفه الخلق الكثير. وكانت وفاته سنة 1342 هجرية، وعمره (70) سنة، وشيع تشييعاً عظيماً، وصلى عليه الشيخ راضي الخالصي الكاظمي، ودفن في الرواق الشرقي من المشهد الكاظمي المقدس إلى جنب جده وعمه وأبيه مقابل قبر الشيخ المفيد. وأرخ وفاته الشيخ محمد السماوي النجفي بقوله:

يا لبحر من العلوم غزيرٍ *** ترتوي ورده العطاش الهيمُ
رضي الله عنه فاستأثرته *** رحماتٌ وجنةٌ ونعيمُ
فهنيئاً له هنيئاً وأرخـ *** ـه (رضا الله حاز إبراهيمُ)

1342

رحم الله الجميع برحمته، وأسكنهم فسيح جنته.

***

وفي ليلة هذا اليوم ـ وكانت ليلة جمعة 18/ 12 ـ من سنة 1280 هجرية توفي بأصفهان العلامة الجليل، السيد محمد علي ابن السيد صدر الدين الموسوي العاملي الأصفهاني، المعروف بآقا مجتهد عن عمر لا يزيد عن ثلاثين سنة إلّا شهراً واحداً. ومعنى ذلك أن مولده كان بتاريخ 18 /11/ 1250 هجرية. وأمه بنت الشيخ جعفر صاحب كتاب (كشف الغطاء)، وهو أكبر أولاد أبيه، ولما توفي أبوه قام مقامه في العلم والرئاسة، وكان متبحراً في العلوم العقلية والنقلية، وزاد على أبيه في صعود المنبر بعد صلاة الجماعة، واجتماع الخلق الكثير للصلاة معه، واستماع ما يلقيه، حتى كان مسجد أبيه يضيق بالحضور، فاُضيفت إليه الدور التي اشتريت لتوسعته. وله عدة مؤلفات نافعة. وقيل: إنه توفي مسموماً، وحمل من أصفهان إلى النجف الأشرف، فدفن إلى جنب أبيه في بعض حجرات الصحن الشريف. رحمه الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته.

***

وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر ـ أو في العشرين، أو في الواحد والعشرين منه ـ من سنة 1329 هجرية توفي آية الله العظمى المحقق الملا محمد كاظم الخراساني المعروف بالآخوند، مؤلف أفضل وأشمل كتاب في الأصول، وهو كتاب (الكفاية)، والذي يحضر درسه مئات من الطلاب، وأكثرهم من المجتهدين. وقد لقي هذا الشيخ العظيم ما لقي من العوام والمرتزقة بسبب مقابلة الحكام، والوقوف أمام السلاطين، وبسبب مخالفة بعض المراجع لرأيه في ذلك، ومن ذلك حادثة المشروطة التي بدأت بوادرها سنة 1323، وملخصها أن تكون هناك شروط يلتزم بها الحاكم وفي طليعتها وجود مجلس يمثل الشعب «برلمان»، وقد اضطر ملك إيران حينذاك ـ وهو مظفر الدين شاه القاجاري ـ إلى التوقيع على ذلك، ولكنه مات مع تشكيل أول مجلس من هذا النوع، فلما خلفه ولده محمد علي شاه عمل على إلغاء ذلك المجلس، فأفتى الشيخ بخلعه، فثار الناس عليه، حتى اضطروه إلى الفرار، فعينوا مكانه ولده ـ وكان طفلاً صغيرا ـ فعينوا له من يدبر أمر الدولة من رجال الأسرة المالكة.

وبعد حين بدأت خلافات بين أعضاء المجلس في القوانين التي وضعوها للحكومة الدستورية، فلما علم الشيخ بذلك عزم على الذهاب إلى إيران من أجل إصلاح الأوضاع، وفي فجر اليوم الذي عزم على السفر فيه ـ وهو اليوم 18 /12/ 1329، أو اليوم 20/ 12/ 1329 هجرية ـ مات بالسكتة القلبية. رحمه الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته.

وجاء في مجلّه الموسم ـ صفحة (10) ـ بقلم الأستاذ طالب علي الشرقي ـ رحمه الله ـ وهو يتحدث في مقاله الذي كتبه بعنوان (دور النجف في تاريخ العراق السياسي الحديث): ولما تجاوزت روسيا على حدود إيران الشرقية، أعلن علماء النجف الجهاد والسفر إلى إيران، فضربت أطناب خيام المجاهدين في خارج السُّور، وجمعت الأموال والأجهزة الضرورية للسفر، وعند فجر اليوم الذي أزمعوا السفر فيه، فوجئوا بموت كبير العلماء، ورأس الحركة الجهادية، الشيخ الملا كاظم الأخند، فاُرجئ السفر، وقوضت خيام المجاهدين، ويفعل الله ما يشاء.

ورثاه الشيخ محمد رضا الشهيبي بقصيدة طويلة قال فيها:

الدين فيك المعزى لوثوى فينا *** لكنهم فقدوا في فقدك الدينا
بالأمس كنت بعزّ الدين تضحكنا *** واليوم كنت بذل الدين تبكينا
كانت عليك أمانينا مرفرفة *** حسب المنايا فقد خابت أمانينا
من للمصلين حادوا دون قبلتهم *** يا كعبة المجتدي من للمصلينا^([1])

إلى آخر القصيدة المذكورة في كتاب (الأعيان) للسيد الأمين. رحم الله الجميع برحمته، وأسكنهم فسيح جنته.

***

وفي هذا اليوم من سنة 1397 هجرية توفي ببلدة الرميلة من محافظة الأحساء الخطيب الكبير، والواعظ الشهير، الشيخ الملا حسن العبد الله العلي الذي تفوَّق في خطابته، واشتهر في منطقته بأعمال الخير والصلاح. وقد أقيمت له الفواتح، وبكت عليه النوائح، ورثته الشعراء، وأبنته الأدباء. وكان ممن رثاه سماحة العلَّامة الجليل، والخطيب الكبير، الشيخ حسن ابن الحاج عبد المحسن الجزيري ـ المتوفى بتاريخ 3 /8/ 1403 هجرية ـ وستجد قصيدته كاملة في ظهر هذه الورقة المباركة. رحم الله الجميع برحمته.

وقد خلَّف هذا الفقيد الغالي خلفاً صالحاً، وذرية طيبة، منهم ولده الأكبر، المؤمن المصلح الحاج محمد علي أبو ناصر المولود في […]، وولده الفاضل الخطيب الحاج الملا حسن علي المولود في […]، وولده الفاضل الشيخ أبو جمال.

بسم الله الرحمن الرحيم

ما قاله الأقل الشيخ حسن عبد المحسن الجزيري في تأبين الفقيد السعيد، الراحل إلى رضوان ربه الحميد، التقي الأواه، الحاج الملا حسن العلي العبد الله مؤرخاً عام السابعة والتسعين والثلاثمئة والألف:

خطب دهى فارعبا *** والشعب منه اضطربا
لما عَرا حل عُرا الـ *** ـعليا وأبدي الغيهبا
واهتزت الأفلاك لمـ *** ـا أنعرى واعصوصبا
برنة من هولها *** دمع المعالي انسكبا
والمكرمات أصبحت *** تصب دمعاً صيِّبا
أصمى حشاشة الهدى *** وصم أسماع الإبا
فلا ترى في هجر *** محافلاً أو سبسبا
إلّا بها فاغرة *** طفلاً شباباً أشيبا
ابيضت محاجر الهدى *** ونورها قد ذهبا
مذ فقدت إنسانها *** ونجم سعدها خبا
أعني بذاك ابن جلا *** من كان للشعب أبا
شبل علي حسناً *** خطيبها المهذبا
وفيلسوفاً إن يفه *** لنطقه كلٌّ صبا
بالدرّ من ألفاظه *** أعيا جميع الخطبا
يفوق قسّاً إن علا الـ *** ـمنبر يلقي خطبا
في خلقه شمائل *** سمت وجلت منصبا
عظيم قدر مجده *** فوق الثريا طنّبا
دعاه ربه إلى *** مكارم له حبا
لبى نداء ربه *** مبتسماً مرحّبا
فشيعته زمر الـ *** ـأملاك أعلى موكبا
بنات نعشه علت *** بنات نعش رتبا
واستقبلته حورها *** تلثم منه المنكبا
مسفرة باسمة *** تقول قولاً ذربا
يا مرحبا بمن أتى *** بمن أتى يا مرحبا
وأسرعت ولدانها *** تسقيه كأسا أعذبا
ثم الصلاة ما هما *** غيث وما هبت صبا
على النبي المصطفى *** وآله أهل العبا
مضى الفقيد سالماً *** عنه الوبا قد ذهبا
إني أعزي ولده *** وآله والصُّحُبا
وأسأل الباري لهم *** حسن البقا والعقُبا
حل جوار ربه *** تاريخه قد أعربا
ابن علي حسن *** مضى لحور طيبا

___________________

([1]) المائدة: 67.

([2]) المائدة: 5.

([3]) أعيان الشيعة 9: 6.