الشيخ مصطفى المرهون يحاضر بعنوان: المعرفة طريق المحبة
قال إمامنا الحسن المجتبى (عليه السلام): ((من عرف الله أحبه)).
يشير الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث الشريف إلى أن الأساس في محبة الله هو معرفته؛ لأن الإنسان إذا عرف ربه أحبه؛ باعتباره عزوجلّ أصل الفيض ومبدأ الوجود.
ويمكن أن نتوصل إلى معرفة الله من خلال ثلاث طرق.
الطريق الأول: دليل الفطرة؛ لأن الصنعة تدل على الصانع. فكل إنسان إذا نظر إلى نفسه أنه وُجد بعد عدم ولم يخلقه أبواه، ولا هو خلق نفسه، فلابدّ أن يؤمن بالله تعالى.
قال سبحانه: ((سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ)).
وهذا الطريق أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)).
وكذلك الحديث الشريف: ((كل مولود يولد على الفطرة…)).
وأبرز العلماء الذين تبنوا هذه الفكرة (أندريه)، حيث قال في ملخص كلامه: كل إنسان يحمل في نفسه فكرة العلية، وإن هذه الفكرة كافية لتكوين العقيدة، وإن كل إنسان لديه فكرة عن صنع الأشياء يعتقد في وجود صانع.
قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)).
الطريق الثاني: الطريق النظري. وهو أن تعرف الله بصفاته الكمالية، أي بالدليل وبرهان العقل كما قرر ذلك المتكلمون والفلاسفة.
الطريق الثالث: دليل الإشراق. وهو أن الإنسان متى خلصت نفسه من الشوائب انعكس في قلبه معرفة الله بدون استعمال النظر، كما ينعكس المثال في المرآة الصافية. وهذا انتقال من العلم بالسبب إلى العلم بالمسبب، وهو أعلى مراتب المعرفة.
قيل لعلي (عليه السلام): هل عرفت الله بمحمد، أو عرفت محمداً بالله؟ فقال: ما عرفت الله بمحمد ولكن عرفت محمداً بالله.
ولذلك قال العارفون: إن الإنسان إذا لم يعرف الله معرفة شهودية، لا يتسنى له أن يكون عاشقاً؛ لأن هذه المعرفة توصله إلى أن كل المحاسن جُمعت في ذات الله.
قال سبحانه: ((آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)). ومن هنا فلا يمكن لهذا الإنسان أن يتوجه إلى غير الله تعالى.
وقد ذكرالقرآن الكريم طائفتين عرفتا الخالق معرفة شهودية.
الطائفة الأولى: الملائكة.
الطائفة الثانية: أولو العلم.
قال سبحانه: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ))
ويقول الإمام علي (عليه السلام) عن الملائكة: ((قد استفرغتهم أشغال عبادته، ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته، قطعهم الإيقان به إلى الوله إليه، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره، قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالكأس الروية من محبته)) (الخطبة 91).
وإذا أردنا أن نصل إلى المراحل العالية والسامية، فلابد من تطهير القلب من الرذائل والشوائب، وفي دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد (عليه السلام): ((وإن الرائح إليك قريب المسافة، وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك)).
ولكي نكون على المسار الصحيح علينا الاهتمام بأمرين مهمين.
الأمر الأول: أن نكون موحدين حقيقيين؛ لأن الأساس المتين الذي تبنى عليه ذات الإنسان هو توحيد الله تعالى. وبداية مسيرة التوحيد بدأت بالكلمة الوحيدة التي نادى بها جميع الأنبياء والرسل وهي: ((لا إله إلا الله)) كلمة التوحيد، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يقول: ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) أي لا نؤمن بمؤثر إلا الله، وأن كل شيء فانٍ إلا الله تعالى.
فإذا أدرك الإنسان حقيقة توحيد الله سبحانه يستطيع أن يتوجه إلى الله بكل كيانه ووجوده.
ومعنى التوجه الحقيقي هو:
أن يكون الإنسان صادقاً ومخلصاً في قول لا إله إلا الله. وأن يتخلى عن هوى نفسه أمام الله تعالى، وأن يكون مشتاقاً حقيقياً لله سبحانه وتعالى. فإذا استقر قلبه في توحيد الله شملته عناية الله سبحانه في جميع لحظات حياته، في حركاته وسكناته، وسيبقى دائماً تحت عناية الله تعالى.
وفي الحديث القدسي: ((يا بن آدم، إني أحبك فأنت أيضا أحبني)). وفي الحديث القدسي الآخر: ((عبدي، أنا وحقي لك محب فبحقي عليك كن لي محبا)).
ومن هنا قال العلماء العارفون: إن المبدأ الأساس في محبة الله هو معرفته سبحانه؛ إذ لا يمكن أن يعرف الإنسان ربه ولا يحبه. وهذا معنى قول إمامنا الزكي (عليه السلام): ((من عرف الله أحبه)).
الأمر الثاني: أن نطهر قلوبنا ونكون من المتقين، وأدنى مراتب التقوى أن نأتي بالواجبات ونبتعد عن المحرمات.
أما أعلى مراتب التقوى، فهي اجتناب ما سوى الله تعالى، بأن لا يكون في قلوبنا شيء غير محبة الله سبحانه، الذي به يرى ما لا يرى غيره ويسمع ما لا يسمعه الآخرون؛ لأن المؤمن إذا صان نفسه عما سوى الله، يمنحه الله نوراً ينير قلبه، ويعرفه المبادئ الإلهية. وفي الحديث: ((القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه، وكل قلب فيه شرك أو شك، فهو ساقط)).
إذن يمكن أن تحصل المعرفة الشهودية للإنسان المؤمن إذا طهر قلبه من محبة غير الله تعالى، وهذا يحتاج إلى عدة أمور:
الأمر الأول: حضور القلب الدائم في طريق الله تعالى، وعدم انشغاله بما سوى الله سبحانه.
الأمر الثاني: التوسل بأهل البيت (عليهم السلام) والمداومة على الارتباط بهم من خلال زيارتهم وإحياء ذكرهم.
الأمر الثالث: التضرع والابتهال إلى الله بخشوع، والإخلاص له في العبادة، وكان الإمام الحسن (عليه السلام) قوي الاتصال به سبحانه.
الأمر الرابع: الاهتمام بالمؤمنين والإحسان إليهم بالدعم والدعاء والخدمة المتواصلة، وكان الإمام الحسن (عليه السلام) يجلس مع الفقراء ويقضي حاجاتهم، وفي الحديث: ((خير الناس من انتفع به الناس)) وقال الرسول (صلى الله عليه وآله): ((الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سرورا)).
فلنتفقد الفقراء والمحتاجين، ولنساند المجاهدين والمرابطين في سبيل الله تعالى، ولنسير في طريق محبة الله، كما سار إمامنا الزكي (عليه أفضل الصلاة والسلام)
والحمد لله رب العالمين.
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.