كلمة المجمع العالمي لأهل البيت

لعلّنا لا نجانب الحقيقة لو قُلنا إنّ من أخطر القضايا وأدقّ المهمّات التي تصدّى لها أئمة أهل البيت (عليهما السلام) خلال حياتهم الزاخرة بالعمل والجهاد وسَعَوا بكلّ وجودهم من أجل تحقيقها في الواقع الخارجي على أُسس القرآن الكريم وسُنّة النّبي الأمين (صلى الله عليه وآله) هي وحدة الأمّة وتماسكها في إطار الكيان الإسلامي العام، حفاظاً على عظمته وهيبته أمام أعداء الإسلام والمتربصين به، وتحقيقاً لمصلحة الإسلام العُليا في بناء الأمّة وَرُشْدها الأمثل في السير الّلاحب نحو الله سبحانه وتعالى في أجواء الحب والأُلفة والكلمة الطيبة والموقف الهادف، بعيداً عن الضغائن والتعصب والتنافر والتقاطع فيما بين فرقها ومذاهبها وتجمّعاتها ومحاورها التي نَمَتْ في أجواء تَرِكَات الجاهلية الأُولى وأهواء بعض الحكّام المنحرفين والسلاطين الذين نزوا على سدة الحكم وعاثوا في بلاد الله وعباده ظلماً وفساداً،(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام # وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)([1])(وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَوَيُفْسِدُونَفِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)([2]).

وقليل مَنْ تناول هذه القضية بدراسة شمولية مترابطة تتناولها كمحور موضوعي في البحث والتحليل في آيات الكتاب الكريم وسيرة أهل البيت (عليهما السلام) ومن هذا القليل المُسدّد هو سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم

(حفظه الله) مؤلف هذا الكتاب، الذي جمع في عطائه الإسلامي الوحدويبين النظرية والتطبيق، وناغمت أُطروحته تَجربته، ولعل السرّ في التوفيق الذي أحرزه في هذا الكتاب وأمثاله يكمن في هذا الجمع الفريد، فقد عاش في كنف أكبر المرجعيات الإسلامية المعاصرة المتمثلة في مرجعية والده آية الله العظمى السيد محسن الحكيم (قدس سره) التي شهدت انفتاحاً شاملاً بين فرق المسلمين ومذاهبهم على صعيد المطارحات العلمية والفكرية، وعلى صعيد الممارسة السياسية والاجتماعية، وكذلك مرجعية آية الله العظمى المجاهد الإمام الخميني (قدس سره) التي خاضت كفاحاً مريراً وجهاداً متواصلاً من أجل إقامة حكومة الفقيه الإسلامي العادل، وقادت دفة هذه الحكومة المباركة بعد قيامها، وأثبتت للعالم كله عظمة الإسلام وقدرته على توحيد الأُمّة وتفجير طاقاتها وإثراء قدراتها، لا على صعيد مواجهة الطاغوت المُتَفَرْعِنْ بكلّ وسائل القدرة المادية والهيمنة الاستكبارية وحسب، بل على صعيد الأُمّة ذاتها في إثبات هويتها الرسالية الواحدة وقدرتها على الصمود والبناء، وطرح النموذج الحيوي الرائد للأمم الإنسانية المعاصرة، كما أنه عاش في كنف التجديد العلمي والطرح الرسالي الهادف للإسلام بأُفقه العالمي المعاصر من خلال مرجعية الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ، بالاضافة إلى التجربة التي عاشها في قضية الوحدة من خلال الأوضاع السياسية والاجتماعية في الساحات الإسلامية، وخصوصاً الساحة العراقية، ومحاولات الاستعمار وبعض الحكومات العميلة التي حَكَمَتْ وسيطرتْ على العراق وشعبه على أساس سياسية (فرِّق تسُد)، والتركيبة المذهبية في بلده العراق، وقدرة المسلمين في مثل هذا البلد الإسلامي الأصيل على التّعايش والتّكافل الإسلامي فيما بينهم.

كل ذلك أثمر أُفقاً واسعاً في قلمه وترابطاً موضوعياً في رؤاه نجدهاواضحة في مضامين مفردات هذه الدراسة البكر، التي بدأت بتمهيد عن الوحدة الإسلامية من منظور حضاري، كاشفاً فيه عن أهميتها، ومستعرضاً لمستلزمات الموقف الإسلامي في مواجهة التحديات المعاصرة، وكيفية معالجتها، وأساليب تطوير وتدعيم الحالة الإسلامية في هذه المواجهة، والضرورة الواقعية والحضارية لقيام الوحدة الإسلامية.

ثم يُؤَسِّس هذه الدراسة على أُسسٍ من الثّقلين المباركين مبتدئاً بالمنظور القرآني للوحدة الذي تناول في آياته الكريمة ظاهرة الوحدة والاختلاف في التأريخ الإنساني، وعلاج أسباب الانحراف عن الدِّين الحقِّ فيها، ويربط ذلك منطقياً بأُسُسِ الوحدة في المجتمع الإسلامي عقائدياً وأخلاقياً، مستوعباً فيها الوسائل الشرعية من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، لتحقيق هذه الوحدة، مشيراً فيها إلى الثمرات والفوائد التي يكشف عنها تأريخ أهل البيت (عليهما السلام) ، باعتبارهم رُوّاد هذه الوحدة والقادة إليها.

ثم يسبر غور التأريخ المشرق لأهل البيت (عليهما السلام) وهم يخوضون غمار مسيرة الوحدة الإسلامية في الأمَّة في مختلف المراحل والأدوار، مقرراً فيها المباني التي أسسوا عليها منهجهم العملي في إرساء هذه الوحدة المباركة، مستنبطاً منها نظرية متميزة لأهل البيت (عليهما السلام) في الوحدة الإسلامية، والتي كانت رائدة للمسلمين في مسيرتهم الإسلامية عبر التأريخ، ولم يهمل البعد النقدي من خلال المقارنة بين نظريتهم (عليهما السلام)  والنظريات الأخرى، التي تعاطاها البعض هنا أو هناك.

ثم يخلص سماحته إلى نتيجة عملية قائمة على أُسُس الثقلين الكريمين، مدعومة بالواقع التأريخي الرائد لأهل البيت (عليهما السلام)  في أُسُس ومنهج التقريب بين المذاهب الإسلامية في مرحلتنا المعاصرة.

والمعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهما السلام) إذ تُقدِّم هذا السفالجليل إلى القرّاء الكرام، تعدهم بأنها ستواصل طرح المزيد من هذه الدراسات البناءة، مشاركة منها في التعريف بمعالم مدرسة أهل البيت (عليهما السلام) ، وتقديم أُطروحتهم المُثلى لقيادة المسلمين نحو العدل والقسط، وإنقاذ البشرية من الظلم والجور، وإعلاء كلمة الله في الأرض (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)([3]).صدق الله العلي العظيم والحمد لله رب العالمين.

المعاونية الثقافية

للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهما السلام)

 



([1])البقرة:204 - 205.

([2])الرعد:25.

([3]) الأنبياء: 105.