يوم الأربعين ـ ٧
وروي عن سهل بن سعيد قال: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام وإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار وقد علقوا الستور والحجب من الديباج والحرير، وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: أترى لأهل الشام عيد لا نعرفه نحن؟! فرأيت قوماً يتحدّثون فقلت: يا قوم ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟ قالوا: نراك غريباً. فقلت: نعم، أنا سهل بن سعيد قد رأيت رسول الله وسمعت حديثه. فقالوا: يا سهل، ما أعجبك للسماء لا تمطر دماً، وللأرض لا تنخسف بأهلها؟ فقلت: ولِمَ ذلك؟! فقالوا: هذا رأس الحسين وعترة محمد وأهله يهدى من أرض العراق. قلت: وا عجباه، يهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟ ثم قلت: من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، فبينما أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله|، فإذا من ورائه نساء على جمال بغير غطاء ولا وطاء، فدنوت من أولهم فقلت: يا جارية من أنت؟ فقالت: «أنا سكينة بنت الحسين». فقلت لها: ألك حاجة؟ فإني سهل بن سعيد ممن رأى رسول الله وسمع حديثه. قالت: «يا سهل، قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظرون إلى حرم رسول الله». قال سهل: فدنوت من حامل الرأس وقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار؟ قال: وما هي؟ فقلت: تُقدّم الرأس أمام الحرم. ففعل.
وفي نقل آخر كما في المنتخب قال: خرجت من شهر زور أريد بيت المقدس، فصادف خروجي أيام قتل الحسين×، فدخلت الشام فرأيت الأبواب مفتحة، والدكاكين مغلقة، والخيل مسرجة، والأعلام منشورة، والناس أفواجاً أفواجاً قد امتلأت منهم الطرق والسكك والأسواق وهم في أحسن زينة يفرحون ويضحكون. فقلت لبعضهم: أظن حدث لكم عيد لا نعرفه. قالوا: لا. قلت: فما بال الناس كافة فرحين مسرورين؟ قالوا: أنت غريب، أم لا عهد لك بالبلد؟ قلت: نعم، فماذا؟ قالوا: فتح لأمير المؤمنين يزيد فتح عظيم. قلت: وما هذا الفتح؟ قالوا: خرج عليه في أرض العراق خارجي، والمنة لله ولرسوله. قلت: ومن هذا الخارجي؟ قالوا: الحسين بن علي بن أبي طالب. قلت: الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟! قالوا: نعم. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن هذا الفرح والزينة لقتل الحسين بن بنت نبيكم؟ وما كفاكم قتله حتى سميتموه خارجياً؟ فقالوا: يا هذا، امسك عن هذا الكلام واحفظ نفسك، فإنه ما من أحد يذكر الحسين بخير إلا قُتل. فسكت عنهم باكياً حزيناً. قال: فرأيت باباً عظيماً قد دخلت فيه الأعلام والطبول. فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب، فوقفت هناك، فكلما تقدموا بالرأس الشريف كان أشد لفرحهم، وارتفعت أصواتهم، وإذا برأس الحسين والنور يسطع من فيه إلى عنان السماء كنور رسول الله، فلطمت على وجهي، وقطّعت أطماري، وعلا بكائي ونحيبي وقلت: وا حزناه على الأبدان السليبة النازحة عن الأوطان، المدفونة بلا غسل ولا أكفان، وا حزناه على الخدّ التريب والشيب الخضيب، يا رسول الله ليت عينك ترى رأس الحسين في دمشق يطاف به في الأسواق، وبناتك مشهرات على النياق مشققات الجيوب والأزياق ينظر إليهم شرار الفساق. أين علي بن أبي طالب يراكم على هذه الحالة؟! ثم بكيت وبكى لبكائي من سمع منهم صوتي وأكثرهم لا يفطنون بي؛ لكثرتهم وشدة فرحهم، واشتغالهم بفرحهم وسرورهم، وارتفاع أصواتهم، وإذا بنسوة على الأقتاب بغير وطاء ولا ستر، وقائلة منهن تقول: «وا محمداه، وا علياه، وا حسناه، وا حسيناه، لو رأيتم ما حلّ بنا من الأعداء؟ يا رسول الله، بناتك أسارى كأنهن أسارى بعض اليهود والنصارى، وهي تنوح بصوت يقرح القلوب على الرضيع الصغير، والشيخ الكبير، والمذبوح من القفا ومهتوك الخبا، العريان بلا رداء. وا حزناه لما نالنا أهل البيت فعند الله نحتسب مصيبتنا».
قال: فتعلقت بقائمة المحمل وناديت بأعلى صوتي: السلام عليكم يا أهل بيت محمد ورحمة الله وبركاته، وقد عرفت أنها أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×. فقالت: «من أنت أيها الرجل الذي لم يسلم علينا أحد غيرك منذ قُتل أخي وسيدي الحسين؟» فقلت لها: يا سيدتي، أنا رجل من شهر زور، واسمي سهل، قد رأيت رسول الله وسمعت حديثه، وأنا من محبيكم. قالت: «يا سهل، ألا ترى ما صُنع بنا؟ أما والله لو عشنا في زمان لم ير فيه محمد ما صُنع بأهله بعض هذا. قُتل والله أخي وسيدي الحسين، سُبينا كما تسبى العبيد والإماء، وحُملنا على الأقتاب بغير وطاء ولا ستر ولا غطاء كما ترى». فقلت: يا سيدتي، يعزّ والله على جدك وأبيك وأمك وأخيك. فقالت: «يا سهل، اشفع لنا عند صاحب المحمل أن يتقدّم بالرؤوس ليشغل النظارة بها عنّا، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا». فقلت: حباً وكرامة، ثم تقدّمت إليه وسألته بالله وبالغت معه فانتهرني ولم يفعل. قال سهل: وكان معي رفيق نصراني يريد بيت المقدس، فكشف الله عن بصره، فسمع رأس الحسين وهو يقرأ ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللهُ غافلاً عَمّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾. فأدركته السعادة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ثم انتضى سيفه وحمل على القوم، وجعل يضرب فيهم، فقتل منهم جماعة وهو يبكي، فتكاثروا عليه فقتلوه. فقالت أم كلثوم: «ما هذه الصيحة؟» فحكيت لها الحكاية، فقالت: «وا عجباه، النصارى يحتشمون لدين الإسلام وأمة محمد، والذين هم يزعمون أنهم على دين محمد يقتلون أولاده ويسبون حريمه، ولكن العاقبة للمتقين».
وروي عن بعض فضلاء التابعين وهو خالد بن معدان: لما شاهد رأس الحسين× بالشام منع نفسه شهراً عن جميع أصحابه، فلما وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذاك، فقال: ألا ترون إلى ما نزل ثم أنشأ يقول:
جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمد |
|
مترملاً بدمائه ترميلا |
قال الراوي: ثم اُدخل ثقل الحسين × ونسائه ومن تخلّف من أهل بيته على يزيد (لعنه الله) وهم مقرنون بالحبال وزين العابدين مغلول اليدين، فلما أوقفوهم بين يدي يزيد وهم على تلك الحالة قال له علي بن الحسين×: «أنشدك يا يزيد ما ظنك برسول الله لو يرانا ونحن على هذه الحالة؟ فلم يبق في القوم أحد إلا بكى». فأمر يزيد بالحبال فقُطِّعت، ثم وُضع رأس الحسين بين يديه في طشت، وأُجلس النساء خلفه لئلا ينظرنه. ولما وُضع رأس الحسين ورؤوس أهل بيته بين يدي يزيد (لعنه الله) جعل ينشد ويقول متشمتاً:
صبرنا وكان الصبر منا سجية |
|
بأسيافنا يفرين هاماً ومعصما |
ودعى بقضيب خيزران وجعل ينكث به ثنايا الحسين ويقول: يوم بيوم بدر، وكان عنده أبو بردة الأسلمي فقال: وَيْحَك يا يزيد أتنكث بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة، أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن وهو يقول: «أنتما سيدا شباب أهل الجنة، قتل الله قاتليكما، وأعد له جهنم وساءت مصيراً». فغضب يزيد وأمر بإخراجه، فأُخرج سحباً.
ولما رأت فاطمة وسكينة إلى رأس أبيهما بين يدي يزيد يضربه بالخيزران صِحْنَ، فصاحت نساء يزيد وولولن بنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين×: «أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟« فبكى الناس، وبكى أهل داره، وعلت الأصوات.
وأما زينب ابنة علي× فإنها لما رأته أهوت إلى جييها فشقته، ثم نادت بصوت حزين يقرح القلوب: «يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكة ومنى، يا ابن فاطمة الزهراء، يا ابن بنت المصطفى» فأبكت والله كل من كان حاضراً، ويزيد ساكت.
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.