خطبة الجمعة 5/10/1433 هـ – عن عمره فيما أفناه
الحمد لله رب العالمين، ديان يوم الدين، خالق الخلائق أجمعين، به نتوكل ونستعين، فهو خير ناصر ومعين، العافي عن المذنبين، قابل توبة التائبين. وأصلي وأسلم على سيد الخلق أجمعين، حبيب قلوب العالمين، نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تزود ما استطعت لدار خلد * فخير الزاد زاد المتقينا
ولا يغررك في الدنيا ثراء * هناك ترى أجور العاملينا
تبصر يا هداك الله إنا * نسير على طريق السابقينا
فإن الموت غاية كل حي * وبطن الأرض مثوى العالمينا
ألم تعلم بأن اللاء كانوا * ملوكا في القرون الغابرينا
أضاعوا العمر في لهو وظلم * وحادوا عن طريق المتقينا
ولم يجدوا لدفع الموت عنهم * سبيلا فا ستكانوا صاغرينا
نعيم الخلد لا يفنى فسارع * لأعمال العباد الصالحينا
روى الإمام محمد الباقر (ع) عن جده رسول الله (ص) قال: (لا يزول قدم عبد يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، حتى يسأل عن أربع خصال، عن عمره في ما أفناه، وعن جسده في ما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفي ما أنفقه، وعن حبنا وولايتنا أهل البيت).
وقد تحدثت الرواية عن أربع نقاط مهمة في حياة الإنسان
النقطة الأولى: تحدثت عن العمر (عن عمره فيما أفناه) ويتشكل عمر الإنسان من هذه الحظات التي يعيشها في حياته. يقول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له * إن الحياة دقائق وثوان
فبعض يربح العمر وبعض يخسر، قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ويخسر الإنسان عمره؛ لأنه كالمال الذي يتجر به صاحبه.
وقد ورد: أن قوما ضلوا الطريق فوصلوا إلى راهب جالس في صومعته، فنادوه فأشرف عليهم، فسألوه عن الطريق؟ فأشار إلى السماء، فعلموا بمراده فقالوا إنا سائلوك؟ فقال: سلوا ولا تكثروا؛ فإن النهار لا يرجع والعمر لا يعود. فقالوا: إلى ما المصير؟ قال: من حيث قدمتم، فقالوا أوصنا: فقال: إن أعماركم رؤس أموالكم فلا تخسروها.
أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا * تشري بها لهبا في الحشر يشتعل
يقول علي (ع): (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وقوتك قبل ضعفك، وصحتك قبل سقمك).
وإذا أردنا أن ننظر إلى حياتنا العملية نجد أن الناس على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: اشتغلوا بغرور الدنيا فأفنو حياتهم في معصية الله تعالى وفعل المنكرات، قال تعالى: هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
القسم الثاني: اشتغل بطاعة الله تعالى ولكن تصدر منه بعض المعاصي. يقول تعالى: وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا.
القسم الثالث: من عاش عمرا مليئا بالنعيم والعبادة والإنتاج والعمل الصالح، فيكون قد استغل عمره فيما يرضي الله ويأمر به.
وهذه الشريحة هي شريحة العمل والعطاء، التي بها قوام المجتمع، وعماد الدين، وهم رجال الله أهل التضحية والفداء، الذين يقدمون كل غال ونفيس، وإن ننسى فلا يمكن أن ننسى المجاهدين في سبيل الله، الذين حاربوا الكفر والإلحاد، وتحملوا السجون والتعذيب والقهر والمهانة من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة الدين، إنهم الحسينيون في الموقف والعطاء والتضحية
تركت الخلق طرا في هواك * وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني في الحب إربا * لما مال الفؤاد إلى سواك
هذا وكل شيء في الحياة يمكن اكتسابه أو استرجاعه إلا العمر فإنه لا يعدله شيء ولا يمكن أن يعود. بل هو الوقت المحدد الذي لا يمكن إطالة أمده أو تمديد أجله المحتوم، أو استرداد ما تصرم منه. قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. الأعراف: 34. وقال رسول الله (ص) لأبي ذر: (يا أبا ذر، كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك).
وقال أمير المؤمنين (ع): (إنما الدنيا ثلاثة أيام، يوم مضى بما فيه فليس بعائد، ويوم أنت فيه فحق عليك اغتنامه، ويوم لا تدري أنت من أهله، ولعلك راحل فيه. أما اليوم الماضي فحكيم مؤدب، وأما اليوم الذي أنت فيه فصديق مودع، وأما غد فإنما في يديك منه الأمل).
وقال (ع): (ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: أنا يوم جديد وغدا عليك شهيد، فقل في خيرا، واعمل خيرا، أشهد لك به يوم القيامة، فإنك لن تراني بعد هذا أبدا).
وروي إنه جاء رجل إلى علي بن الحسين (ع) يشكو إليه حاله، فقال: (مسكين ابن آدم، له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:
فأما المصيبة الأولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإن ناله نقصان في ماله اغتم به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يرده.
والثانية: أنه يستوفي رزقه، فإن كان حلالا حوسب عليه، وإن كان حراما عوقب.
قال: والثالثة أعظم من ذلك. قيل وما هي؟ قال: مامن يوم يمسي إلا وقد دنا من الآخرة مرحلة، لا يدري على جنة أم على نار). قال الشاعر:
يجد بنا الزمان ونحن نلهو * ولا ندري متى يرد الحمام
ويخدعنا الهوى في ظل عيش * يمر بنا كما مر الغمام
كركب سفينة في لج بحر * تسير بهم وهم فيها نيام
والحمد لله رب العالمين
Related posts
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.