كشكول الوائلي _ 227

img

السبب الطبيعي

لقد كان من الممكن أن يهيّئ اللّه تعالى لمريم عليها السلام رزقها كما كان تعالى يهيّئه سابقا لها، دون تدخّل منها ودون أن تحرّك ساكنا، لكنه تعالى أراد أن يجري الاُمور على طبيعتها؛ فلذا كلّفها بالسعي، فقال: وَهُزِّي. هذا من جهة ومن جهة اُخرى أراد القرآن الكريم أن يصحّح اعتقادا كان ولا يزال سائدا عند الناس وهو: «إن من يدلّني عند الموت يدلّني عند الرزق». وهذا التفكير خطأ؛ لأن اللّه تعالى ربط الأسباب بمسبّباتها، فلو أنّ الإنسان لم يمت لفترة جيلين مثلاً أو أكثر فحينها لن يجد مقدار شبر من الأرض ليسكن فيه، بل إننا سنجد خصومة على كل شبر فيها؛ ولذا فإن اللّه تعالى قدّر لكل إنسان أن تنتهي فرصته في الحياة عند أجل معيّن كي يفسح المجال للآخرين على الأرض ليعيشوا.

وعليه فإن السماء تنظر إلى المسألة من زاوية تختلف عن الزاوية التي ننظر منها نحن إليها، بل إن وجهة نظر السماء تختلف عن وجهات نظرنا في كل شيء.

ثم إنّ الموت لا ينهي الإنسان ولا يعدمه، بل إن كل ما يحصل هو أن يستردّ التراب قسمه من هذا الجسم، أما الروح فإنها تنتقل إلى مكان آخر وتعيش فيه. وهذا ما عليه مأثوراتنا الإسلامية وأدلتنا العلمية، فالموت لا يعدمنا وإنما يفرّق بين أجسادنا وأرواحنا.

إذن لابدّ من تصحيح هذا المفهوم عند الناس «الذي يدلّني عند الموت يدلّني عند الرزق»، والآية الكريمة تبيّن للإنسان أنّ عليه أن يسعى ويجتهد كي يحصل على مبتغاه، وإلاّ فإنّه لن يحصل على شيء أبدا؛ لأنّه إنّما يحصل على ما يريد فيما إذا استخدم السبب الطبيعي، فإن لم يستخدم السبب الطبيعي فإن الأرض ستمتلئ بالناس الذين لا عمل لهم، والذي يظلّون ينتظرون من السماء أن تهيّئ لهم ما يحتاجون إليه.

إن اللّه تعالى استعمرنا في الأرض وأراد منا أن نسخّر الأسباب الطبيعية كافّة في تسيير اُمورنا الحياتية. وعمارة الأرض تشتمل على جوانب مادية وجوانب معنوية، ونحن مسؤولون أمام اللّه تعالى أن نملأ كل أبعاد هذا الفراغ حتى نصل إلى مرحلة إعمار الأرض. فمفهوم انتظار الرزق دون إخضاعه إلى السبب الطبيعي هو مفهوم مخطوء وبحاجة إلى تصحيح، وهذا ما ندب إليه القرآن الكريم بقوله: وَهُزِّي.

وهناك أمر أثاره البعض من المتزهّدين وهو أنّ العمل ينافي التوكّل؛ لأن معنى أن يعمل الإنسان: أنّه ليس له ثقة باللّه تعالى من حيث إنّه سيكفل له رزقه، فهو حينما يعمل فإنّما ينتظر ثمار عمله بعيدا عن اللّه تعالى. ولو أنّ هذا يمتلك أدنى قدر من التوكل على اللّه تعالى لترك العمل؛ لأنّ التوكّل سيهيّئ له كل مطالبه. وهذا الاعتقاد غلطة كبيرة، فالعمل لا ينافي التوكّل على اللّه مطلقا، ولا ينافي الزهد كذلك؛ لأنّ الزهد هو أن يأكل الإنسان من حلال(1)، أمّا أن يعيش الإنسان كلاًّ على الآخرين فهذا بعيد كل البعد عن الزهد الحقيقي.

ومما يروى في هذا المجال أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله كان جالسا إذ جاءه اثنان يحملان رجلاً لا يقوى على الحركة، فسأل عنه، فقالا له: إنه أخونا، وقد انقطع للعبادة. قال: «ومن يطعمه ويسقيه؟». قالا: نحن. قال صلى الله عليه وآله: «أنتما أعبد منه».

فالذي يعمل يعتبر أكثر عبادة من غيره؛ لأن العبادة إنما تأتي بعد إحراز الرزق، يقول الإمام الصادق عليه السلام: «النفس إذا أحرزت معيشتها اطمأنت»(2).

فعندما يتوجّه الإنسان في محرابه إلى اللّه وهو يعلم أن ليس في بيته رغيف خبز وأنّ أطفاله جياع فإنّه سوف لن يتمكن من أن يتوجّه بقلب خالص وانقطاع تامّ إلى اللّه تعالى، ولن يتمكن من ضبط قراءته، وسيبقى جزء من مراسيمها غير صحيح أو غير مراعى فيه جانب الكمال. فمتى ما أحرزت النفس قوتها توجّهت بقلب مطمئن إلى العبادة. وهذا هو معنى الحديث الشريف: «لولا الخبز ما عبد الله»(3). أما إذا كان ذهنه مملوءا بالشعور بالفراغ، فإنّه يصبح بأمسّ الحاجة إلى العمل قبل أن يقدم على العبادة.

فالسعي والطلب للرزق، والتوكّل الواعي على اللّه تعالى هو أوّل أهداف الآية، وهو معنى أخذه الشاعر فقال:

 توكّل على الرحمن في الأمر كله *** ولا تركنن للعجز يوما عن الطلبْ

 ألم ترَ أن الله قال لمريم *** وهزّي إليك الجذع يساقطْ الرطبْ

 ولو شاء أن تجنيه من غير هزها *** جنته ولكن كلّ شيء له سببْ(4)

ففي الآية عبرة واضحة، وبيان لبعض المفاهيم المخطوءة التي تعيش في أذهاننا، وهي أنّ الإنسان يأتيه رزقه عفوا، وتبيّن أن الاُمور مرهونة بأسبابها الطبيعية.

________________

(1) انظر محاضرتي (أمير الزاهدين عليه السلام) ج 5، و(الزهد في حياة علي عليه السلام) ج 6 من موسوعة محاضرات الوائلي.

(2) تحف العقول: 352، ونسبه في الكافي 5: 89 / 3، والعلل (ابن حنبل) 3 : 402 / 5774، وغيرهما لسلمان رضي الله عنه.

(3) الكافي 5: 73 / 13، وفيه: «ما صلينا ولا صمنا، ولا أدّينا فرائض ربّنا»، المبسوط 30: 258، تفسير السمعاني 4: 132.

(4) أحكام القرآن 3: 249، تفسير الآلوسي 16: 85، أضواء البيان 3: 399، المستطرف في كل فن مستظرف 2: 547.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة