كشكول الوائلي _ 225

img

من مظاهر جود الأكبر

وهذه هي الصفة الحميدة التي يشير إليها الشاعر وهو يمدح عليا الأكبر في قوله:

 كان إذا شبّت له ناره *** أوقدها بالشرف القابلِ

يروي المؤرخون أنه كان ينحر الإبل ثم يوقد نار القرى وينضج الطعام، ثم يبدأ يإطعام الناس والأضياف. وهذه الخصلة لم تأته عن كلالة، بل إنّها سمة آبائه الذين كانوا يحملون الطعام في الليالي الباردة على ظهورهم، ثم يدورون بها على بيوت المدينة يطرقون أبوابها ليوصلوا الطعام إلى أهلها والمحتاجين منهم. يقول الزهري:

كنت في إحدى الليالي أمشي في المدينة وقد انتصف الليل، فنظرت إلى زين العابدين ماشيا وهو يحمل على ظهره دقيقا وحطبا، فقلت: سيدي ما هذا؟ فقال: «اُريد سفرا اُعدّ له زادا أحمله إلى موضع حريز». فقلت: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، فقلت: فأحمله عنك؛ فإني أرفعك عن حمله. فقال: «لكني لا أرفع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه. سألتك بالله لمّا مضيت في حاجتك وتركتني».

فانصرفت عنه، وبعد أيّام رأيته فقلت له: يابن رسول اللّه، لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثرا؟ قال: «يا زهري ليس ما ظننت، ولكنه الموت، وله كنت استعدّ». فقلت: ما هذا الذي كنت تحمله؟ قال: «هذا شيء من الطعام كنت أحمله للبيوت الجائعة»(1). وهكذا كان دأبهم عليهم السلام.

إذن فعلي الأكبر كان يمتلك هذه المزايا، وهذا البيت الذي ذكرناه يتعرض لها ويذكرها، فهو قد أخذ محامد البيتين؛ فجده من ناحية الاُم عروة بن مسعود الثقفي الذي يُعبر عنه النبيّ صلى الله عليه وآله بقوله: «مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه إلى اللّه تعالى فقتلوه»(2).

والذي عبر عنه القرآن بأنّه أحد العظيمين في قوله: وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(3).

وفعلاً كان أحد العظماء، وكان جليل القدر. هذا هو الجد الأول له، والجد الآخر هو علي بن أبي طالب عليه السلام الذي استغنى بفضائله عن أن يُمدح. ومن بين هذين الشرفين كان علي الأكبر، حيث إنّه اكتسب التربية العالية من بيت الرسالة الذي يُعد منطلق الشعاع إلى دنيا المسلمين. وهكذا فإنّ عليا الأكبر كان خلاصة هذه التربية وخلاصة هذه الوراثة، ولذا فإن الحسين عليه السلام كان ينزله منزلة كبيرة عنده لا حدود لها، يقول المؤرخون: لمّا كان الركب الحسيني في طريقه من المدينة إلى كربلاء هوّمت عينا الحسين عليه السلام ثم انتبه وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلاّ باللّه، إنّا للّه وإنا إليه راجعون». فجاءه الأكبر وهو يقول: فداك نفسي يابن رسول الله، لماذا استرجعت؟

يروى أنه لم يكن يقول لأبيه: يا أبي، ولكنه قالها مرة واحدة وذلك حينما سقط صريعا كما سيمرّ بنا إن شاء اللّه تعالى، وإلاّ فإن خطاباته لأبيه عليه السلام لم تكن سوى قول: يابن رسول اللّه، أو يابن أمير المؤمنين، أو يا سيّد شباب أهل الجنة، أو ياسيدي. على أية حال سأل علي الأكبر أباه الحسين عليه السلام قائلاً: فداك نفسي يابن رسول الله، لماذا استرجعت؟ فأجابه الإمام الحسين عليه السلام قائلاً: «يابني، رأيت في منامي قائلاً يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا». فقال الأكبر عليه السلام : ألسنا على الحق؟ قال: «بلى والذي إليه مرجع العباد». قال: إذن لا نبالي أن نموت محقّين. فاحتضنه الحسين عليه السلام وقال: «جزاك اللّه من ولد خيرا». ثم أخذ يقبّله ويلثمه(4).

فهو يقول لأبيه: ليكن ذلك؛ فنحن لا نبالي ما دمنا قد أعددنا أنفسنا للموت وله خلقنا، فمرحبا بالموت في أية لحظة وأي مكان ما دمنا على الحقّ. فالموت بعزّ هو غايتنا لا الحياة الممزوجة بماء الذل، وهي أيضا ستنتهي بالإنسان إلى الموت مع أن الذليل ميت وهو في حال الحياة. والموت الذي يكون فيه عزّ الإنسان ليس موتا حقيقيا بل هو حياة له، ففي الواقع إن شريحة عريضة من الناس يمشون على الأرض وهم أموات، فهذا الماشي ليس إنسانا، بل هو قبر يمشي بصاحبه على وجه الأرض:

 نحن موتى وشرّ ما ابتدع الطغـ *** ـيان موتى على الدروب تسيرُ

فالعزيز حيّ وإن فارقت روحه بدنه.

يتبع…

_______________

(1) مناقب آل أبي طالب 3: 293.

(2) تحف العقول: 465، تفسير السمعاني 4: 374، المستدرك على الصحيحين 3: 616، مجمع الزوائد 9: 386، المصنف (ابن أبي شيبة) 8: 530، مسند أبي يعلى 3: 174، المعجم الكبير 17: 148، الاستيعاب 3: 1067، الدرر (ابن عبد البرّ): 247.

(3) الزخرف: 31.

(4) الإرشاد 2: 82، روضة الواعظين: 180.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة