أسباب صلح الإمام الحسن×

img

خطبة الجمعة

مسجد الإمام الرضا×

مصطفى آل مرهون

26/3/1439هـ

أحمدك اللهم وأستغفرك، وأتوب إليك؛ إنك أنت التواب الرحيم. يا من إليه يفر الهاربون، وبه يستأنس المستوحشون، أعوذ بجلالك من بغي الظالمين وكيد الكائدين، وأستجير بك من جور الجائرين. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن التقوى درع الله الحصينة:

قدم لنفسك ما استطعت من التقى *** إنّ المنية نازل بك يافتى
أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى *** أحباب قلبك في المقابر والبلى([1])

 قال رسول الله|: «الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا»([2]).

ذكر أرباب القلم أن للصلح الذي حصل بين الإمام الحسن× وبين معاوية في 25 ربيع الأول سنة 41 هـ عدة أسباب، نلخص بعضها فيما يلي:

السبب الأول: تخاذل أهل العراق عن أميرالمؤمنين× حين كان معاوية يغزوهم في عقر دارهم بعصاباته الإجرامية، والإمام يستحث قومه للجهاد، فلا يزدادون إلّا تقلّباً وتمرّداً، حتى تمنّى فراقهم، وتبرم منهم قائلاً: «يا أشباه الرجال ولا رجال، حُلُومُ الأطفالِ، وعقولُ رباتِ الحجال. لوددتُ أني لم أرَكم ولم أعرِفكم معرفة واللهِ جرَّتْ ندماً وأعقبت ذمّاً. قاتلكم الله؛ لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيانِ والخذلان»([3]).

وقال لهم: «أف لكم؛ لقد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذل من العز خلفاً؟»([4]).

ويقول×: «منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيبُ إذا دعوت»([5]).

وإذا كانت هذه حالهم مع أبيه×، فكيف هم معه×؟ فالأولى أن يخذلوه، وينكصوا عنه إذا جد الجد واحتدم القتال. وهذا ما حصل له بعد أبيه من معاناة وآلام. والغريب في الأمر أن أهل الشام كانوا أطوع لمعاوية من بنانه حتى قال×: «صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه»([6]).

اتبع إمامك طائعاً وملبياً *** وإذا دعاك أجبه بالترحابِ

السبب الثاني: إن كثيراً ممن بايع الإمام الحسن× من الشخصيات كانوا طلاب مصالح ومناصب، وهكذا في كل زمان ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ([7]).

والإمام الحسن× لا يتاجر بدينه، وليس عنده إلاّ العدل والمساواة، ولكن المشكلة هي أنه كيف يرضي بعض الأغنياء أن يكونوا في صف الفقراء؟ وكيف يرضي الشخصيات الكبيرة أن يكونوا عند الإمام كغيرهم ممن هم دون مستواهم متمثلين قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ([8]).

نعم، لقد ترك البعض الإمام الحسن× بعد أن بايعوه، إذ لم يجدوا عنده مطامعهم، وذهبوا إلى معاوية والتحقوا به.. تركوا من لا يغلبه على دينه أحدٌ، وذهبوا إلى من يستبيح كل محرم من أجل الوصول إلى مصالحه ورغباته:

وإن الناس قد ذهبوا *** إلى من عنده ذهب
ومن ما عنده ذهب *** فعنه الناس قد ذهبوا([9])

* * *

رأيت الناس مُنفضّهْ *** إلى من عنده فضّهْ
ومن ما عنده فضّهْ *** فعنه الناس منفضّهْ([10])

السبب الثالث: أن بعض من بايع الإمام الحسن× كانوا من المنافقين الذين يشايعونه ظاهراً ويكيدون له سراً، وهؤلاء راسلهم معاوية واشتراهم بأمواله، ووعدهم بالمناصب، فكتبوا إلى معاوية بالسمع والطاعة سراً، وضمنوا له تسليم الحسن× أو الفتك به. فكتب معاوية إلى عمر بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي أن إذا قتلتم الحسن، فلكم مئة ألف درهم، ومنصب على الجيش، وساوم على بناته. فلما علم الإمام×، صار يحتاط بلبس الدرع تحت ثيابه، وإلّا فكيف يثق بمثل شمر بن ذي الجوشن الذي يعلم أن سيقتل الحسين×؟

وهكذا كان معاوية يساوم على الغدر بريحانة رسول الله|، ولولا الصلح لأنفذوا في الإمامِ كل ما فكروا فيه من الفتك والغدر والخيانة.

السبب الرابع: أن الإمام الحسن× رغم كل التداعيات صمم على القتال والجهاد، وراح بنفسه، يستحث الناس ويستنفرهم، وأرسل جيشاً إلى الحدود، ولكن تخلف عنه كثيرون بعد أن وعدوه بالخروج معه، فقد نكثوا كما نكثوا مع أبيه× من قبل، وبقي في معسكر النخيلة مع أربعة ألاف ورجع إلى الكوفة يستحثهم ويقول: «لقد غررتموني كما غررتم من كان قبلي»([11]).

أما عبيد الله بن العباس فيقال والله أعلم: إن معاوية اشتراه من الحدود، وكان رئيس الجيش، ولكن مليون درهم أغرته، فترك المعسكر ليلاً، وذهب في صف معاوية، وكانت خيانته نصراً كبيراً لمعاوية، حيث أخذ أفرادُ المعسكرِ يتسللون الواحدَ تلو الآخر.

ثم جمع معاوية رسائل أصحاب الحسن× التي وعدوه فيها بالغدر بالإمام× وأرسلها إليه×، فعلم الإمام وعرف أن مؤامرة تحدق به، وليس هناك مجال إلّا للصلح، فصالح؛ حفاظاً على الدين، وحفظاً لشيعته وخلص أصحابه×.

هكذا البعض ملأ سجله بالإجرام والخيانة، وبعض ملأ سجله بالخير والعمل الصالح وصالح المسلمين. فانظر أيها المسلم ماذا تريد أن تكتب في سجلك في هذه الدنيا الفانية (أعاننا الله وإياكم على طاعته)، والحمد لله رب العالمين.

__________________________

([1]) تاريخ مدينة دمشق 13: 260. ترجمة الإمام الحسن× (ابن العساكر):168.

([2]) كفاية الأثر: 37، 117. أعيان الشيعة 1: 417.

([3]) الكافي 5: 6 / 6.

([4]) نهج البلاغة / الخطبة: 34.

([5]) نهج البلاغة / الخطبة: 39.

([6]) نهج البلاغة / الخطبة: 97.

([7]) التوبة: 58.

([8]) الحجرات: 13.

([9]) شرح إحقاق الحق 1: 57.

([10]) شرح إحقاق الحق 1: 57.

([11]) بحار الأنوار 44: 43 / 4.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة