كشكول الوائلي _ 220

img

الثاني: التعبئة المسلّحة

ثم بعد هذا كلّه يأتي دور التعبئة المادية أو تعبئة السلاح، فمعلوم ما للسلاح من أهميّة ودور في تعزيز ثقة المقاتل بنفسه، وبتحقيق النصر عنده، لكن مع هذا تبقى للتعبئة النفسية أثرها الأكبر في خلق أجواء ذلك، فالمقاتل حينما يُسلّح من غير عقيدة فكأنّه لم يُسلّح، يقول أحد الشعراء:

 أيها المستعير ألف سلاح *** لأعاديك كل ما تستعيرُ

 هزّك الذعر لا الحديد ولا النا *** رُ وعب‏ء على الوغى المذعورُ

 أغرور على الفرار لقد ذا *** ب حياءً من الغَرور الغُرورُ

 القصور المحصّنات إلى الجبـ *** ـن حماها خورنق وسدير

فالإنسان في الواقع حتى لو زُوّد بأحدث الأسلحة وأعتاها لكن لم يُزود بعقيدةٍ عسكريةٍ قائمة على أساس التعبئة النفسية، ولم يكن لديه إيمان بقضيته التي يُقاتل من أجلها وبعدالتها فإنّه سينهزم عند أول معركة وفي أوّلها، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «ما لقيت أحدا إلاّ أعانني على نفسه»(1)؛ لأنّه يشعر بأنه سيقاتل علي بن طالب عليه السلام وهو مهزوم من الداخل، فقد كانت ضرباته عليه السلام بكراً؛ إذا علا قدّ، وإذا توسّط قطّ(2)، وبهذا كانت العرب تعتبر الفرار من الزحف عاراً إلاّ من سيف علي عليه السلام. وكانوا يقولون: من يهرب من سيف علي بن أبي طالب، فلا تثريب عليه. وهذا عامل قوي، وهذا هو الاتّجار والنصر والفتح، يقول أحد الاُدباء وكأنه يخاطب الإمام عليا عليه السلام:

 وعلى عدوِّك يابنَ عمِّ محمدٍ *** رَصَدانِ ضوءُ الصبحِ والإظلامُ

 فإذا تنبَّهَ رُعتَهُ وإذا غفا *** سلَّت عليه سيوفَك الأحلامُ(3)

وهكذا نجد أن هذا اللون من التعبئة يلعب دورا كبيرا في إحراز النصر وإلحاق الهزيمة بالعدوّ، وهو اللون عينه الذي اعتمدهُ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في تهيئة جيوش المسلمين وإعدادها. وقد وصل الأمر حدّا كان المسلمون معه واثقين بأنفسهم ومن انتصارهم حتى قبل تسليحهم؛ لأنهم لم يكونوا يحملون سلاحا كذلك السلاح الذي كانت تحمله الجيوش التي تقابلهم.

ولاُقربْ المعنى بما ينقلهُ المؤرخون عن معركة بدر من أن المسلمين كانوا يقاتلون بجريد النخل. وهذا من الاُمور العجيبة لأنّهم كانوا يقابلون طلحة بن أبي طلحة الذي أراد أن يضع بيضة على رأسه يومها، فلم يجد، لعظم رأسه، فأتوه بثلاث عصائب وصلوها ببعضٍ فدارت على رأسه. وكان بطلاً ضخم الجثة، ومع ذلك فإن المسلمين قابلوه وقابلوا أمثاله بجريد النخل المدعّم بتلك التعبئة التي عبّأهم بها رسول اللّه صلى الله عليه وآله.

وكمثالٍ آخر كان عمرو بن الجموح شديد العرج (أي أنّ الجهاد ساقط عنه؛ لأن المعركة تحتاج كرّا وفرّا، وذهابا وإيابا وهذه العاهة تمنع ذلك وتحول دونه) لكنه أبى إلاَّ أن يجاهد، وكان له أربعة بنون شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وآله إذا غزا، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يتوجّه إلى اُحد قال له بنوه: إن الله عزّ وجلّ قد جعل لك رخصة؛ فلو قعدت، فنحن نكفيك؛ فقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال له: يا رسول الله، إن بنيّ هوءلاء يمنعونني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن اُستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنّة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: «أما أنت، فقد وضع الله عنك الجهاد». وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه؛ لعلّ الله يرزقه الشهادة؟». فهذامعبأ نفسيا بهذا اللون من التعبئة الرساليّة.

وهكذا أذن له النبي صلى الله عليه وآله في أن يجاهد حينما رأى إصراره على الجهاد، وفعلاً فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان أحد المعلَّمين (والمعلَّم هو الذي يضع إشارة في الحرب)، وكان معلّما بعمامة صفراء، فقتل يوم اُحد شهيدا(4).

وكمثالٍ ثالث كان أحد الصبيان ويُدعى رافعا قد جاء في موقعه اُحد إلى النبيّ صلى الله عليه وآله ليخرج معه إلى القتال، وكان يعلم أن النبيّ صلى الله عليه وآله لن يأذن له في الخروج إلى القتال؛ لأنّ من شروط الجهاد البلوغ وهو صبي لم يبلغ بعد، وكان قصير القامة، فراح يبحث عن ربوة يعلوها ويتطاول حتى يراه النبيّ صلى الله عليه وآله ويأذن له في الخروج، فلما نظر إليه النبيّ صلى الله عليه وآله تبسّم وأذن له بالخروج للجهاد.

فالمسلمون كانوا معبّئين تعبئة كافية تُغنيهم عند القتال عن كل سلاح؛ لأنّ الجندي إذا حمل هذه الروح كان حقا أن يُنتظر منه هذا الفتح وإلاّ (أي إن لم يحقق الفتح) فإنها عقيدة ضحلة تستعمر السطح ولا تصل إلى الأعماق، وبالنتيجة فإنه لا فائدة تُرجى منه هنا. ولهذا وكان أميرالمؤمنين يقول: «لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم»(5).

أي أنه عليه السلام يروم أن يقرّر بقوله هذا أنه يريد من يقف معه وليس من يتفرّج أو يحمل شعارا فارغا، فالشعار الفارغ لا يفضي إلى نتيجة أبدا، بل يُراد من الشعار أن يتجسّد على شكل فعل. ومن يفعل ذلك فهو الذي يصنع التاريخ ويغير المواقف.

وهذا ما حدث فعلاً فقد غيّر هؤلاء النفر الثلاثمئة والثلاثة عشر وجه التاريخ والحياة والعلم، وغيّروا الحضارة. وكلّ ما في الأمر أن يوطنّ الإنسان نفسه على التضحية والفداء، وعلى العطاء حتى يخلص في نهاية الأمر إلى النتيجة التي يبتغيها.

ولذا فإن هؤلاء المرجفين كانوا منهزمين فعلاً كما أشرنا؛ فقد كانوا يرددون: أنّى لنا النصر على بني الأصفر، فأجابهم الله عزّ وجلّ على لسان الرسول صلى الله عليه وآله بأن نصر اللّه تعالى لا يرتبط بكثرة وقلّة، ولا علاقة له بسلاح: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(6). فاللّه تبارك وتعالى يمنح النصر إذا كان الجيش يمتلك مقوّماته التي هي عبارة عن عملية التعبئة التي ذكرناها.

يتبع…

___________________

(1) نهج البلاغة / الحكمة: 318.

(2) الخرائج والجرائح 2: 542 / 3، النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 81 ـ قط.

(3) البيتان لأشجع بن عمر، وقيل: لمروان بن أبي حفصة، قالهما في المتوكّل العباسي. مناقب آل أبي طالب 3: 17، ونسبهما البكري وابن عساكر لأشجع بن عمر في الرشيد، معجم ما استعجم 2: 584، تاريخ مدينة دمشق 9: 107.

(4) السنن الكبرى ( البيهقي ) 9: 24، الاستيعاب 3: 1168 – 1169 / 1903، الجامع لأحكام القرآن 8: 226 – 227، وفي ( الاستيعاب ) أن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله قال: «لقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته».

(5) نهج البلاغة / الخطبة: 97. وهى خطبة تنمّ عن كبير ألم كان يعتمل في صدر أمير المؤمنين عليه السلام، وقد جاء فيها: «أيها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عقولهم، المختلفة أهواوءهم، المبتلى بهم اُمراوءهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه. لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم؛ فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم. يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين: صمّ ذوو أسماع، وبكْم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء. تربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، كلّما جمعت من جانب تفرقت من جانب آخر».

(6) البقرة: 249.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة