كشكول الوائلي _ 216

img

المأمون يأمر باستدعاء الإمام عليه السلام من المدينة المنوّرة

فالإمام عليه السلام كان يشير إلى ذلك المعنى الذي ذكرنا، وفعلاً استدعاه المأمون من مدينة جدّه رسول اللّه صلى الله عليه وآله سنة (201)ه ـ أي قبل وفاته الشريفة بسنتين وأشهر ـ حيث كان قد بعث الجلودي خلفه.

والجلودي هذا له مواقف شائنة وقاسية مع عائلة الإمام موسى الكاظم وعائلة الإمام الرضا عليهما السلام من بعده، وكان من أقسى القوّاد، وصاحب تاريخ إجرامي مؤلم مع أهل البيت عليهم السلام، وقد أحرق دور آل محمد صلى الله عليه وآله في المدينة المنوّرة، وجاء إلى دار الإمام الكاظم وهو في السجن فأشعل فيها النار بأمر من الرشيد حيث إنه لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة بعثه الرشيد إليه وأمره أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن يسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوبا واحدا.

ففعل الجلودي ذلك، فخرج الإمام الرضا عليه السلام يتخطّى النار ويقول: «أنا ابن إبراهيم خليل الله، أنا ابن إسماعيل ذبيح الله، أنا ابن محمد حبيب الله، أنا ابن عيسى روح الله». حتى أطفأها، ولمّا نظر إليه الرضا عليه السلام جعل النساء كلّهن في بيت، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسن عليه السلام: لابدّ من أن ادخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين. فقال الرضا عليه السلام: «أنا أسلبهن لك، وأحلف أني لا أدع عليهن شيئا إلاّ أخذته». فقبل، فدخل أبو الحسن الرضا عليه السلام، فلم يدع عليهن شيئا ـ حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرارهن ـ إلا أخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير، فأعطاه إياه(1).

الموقف الإنساني للإمام عليه السلام مع الجلودي

والجلودي هذا على الرغم من إجرامه وبغضه لآل البيت النبوي الطاهر وشنآنه لهم كان للإمام الرضا عليه السلام بعد ولايته العهد موقف مشرّف معه، ذلك أنّ الجلودي اُدخل يوما على المأمون وكان قد حبسه مع اثنين آخرين؛ لأنهم نقموا عليه أخذه البيعة للرضا عليه السلام، ولم يرضوا به. وفي اليوم التالي دعا المأمون بهوءلاء النفر فاُخرجوا من الحبس واُدخلوا عليه، فأمر بقتلهم، وحينما جاء دور الجلودي واُدخل على المأمون قال الرضا عليه السلام: «هب لي هذا الشيخ». وتشفّع له عنده، فقال المأمون: هذا الذي فعل ببنات محمد صلى الله عليه وآله ما فعل من سلبهن!

فلمّا نظر الجلودي إلى الرضا عليه السلام وهو يكلّم المأمون، ويسأله عن أن يعفو عنه ويهبه له، ظن أنه إنما يعين عليه لما كان فعله به وبعياله، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك بالله وبخدمتي الرشيد ألاّ تقبل قوله فيّ. فقال المأمون: يا أبا الحسن، قد استعفى، ونحن نبرّ قسمه. ثم قال: لا والله، لا أقبل فيك قوله، ألحقوه بصاحبيه. فقدّم فضرب عنقه(2).

والجلودي هذا هو الذي بعث به المأمون لإحضار الإمام عليه السلام، مع ما هو عليه من حقد وبغض ونصب لآل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله، فأحضره وأحضر معه مجموعة من آل أبي طالب؛ من جملتهم إسحاق ابن الإمام الصادق عليه السلام (عم الإمام الرضا عليه السلام)، وحملهم آخذا بهم على طريق البصرة، فلما صاروا إلى فارس لقيهم رجاء بن الضحّاك وتسلّمهم من الجلودي، وجاء بهم إلى مرو، فأنزلهم المأمون في دار وأنزل الإمام الرضا عليه السلام في دار على حدة وأقبل عليه غاية الإقبال، ثم قال له يوما: يابن رسول الله، إني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك، واُبايعك. فقال له الرضا عليه السلام: «إن كانت الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباسا ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك».

فأصرّ المأمون وقال له: لا بد لك من قبول هذا الأمر. فقال عليه السلام: «لست أفعل ذلك طائعا أبدا». فلمّا يئس من قبوله قال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك، فكن وليّ عهدي؛ لتكون لك الخلافة بعدي. فقال عليه السلام: «والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوما، تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، واُدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد».

فبكى المأمون، ثم قال له: ومن الذي يقتلك، أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟ فقال الرضا عليه السلام: «أما إني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت». فقال المأمون: إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنك زاهد في الدنيا. فقال الإمام الرضا عليه السلام: «والله، ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد». فقال له المأمون: وما اُريد؟ قال الإمام عليه السلام: «تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة؟».

فقال: إنك تتلقّاني أبدا بما أكرهه، فبالله اُقسم لابدّ من قبولك ولاية العهد. فقال عليه السلام: «قد نهاني الله عزّ وجلّ أن اُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أني لا اُولّي أحدا، ولا أعزل أحدا، ولا أنقض رسما ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيرا».

فرضي منه بذلك، وجعله ولي عهده(3).

وتم إعلان ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام، يقول أبو الصلت الهروي: وفي تلك السنة خُطب على المنابر باسم الإمام الرضا عليه السلام، ودُعي له، وضربت السكّة باسمه، وهي الدراهم المعروفة بالرضوية، وقام بين يديه الخطباء والشعراء، وخفقت الألوية على رأسه، فاستبشرت في ذلك اليوم، وقلت: حق من حقوق آل محمّد عليهم السلام عاد إليهم. فنظر إلي وانا مستبشر بما جرى، فأوما إليّ أن ادنُ، فدنوت منه، فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: «لا تشغل قلبك بهذا الأمر، ولا تستبشر؛ فإنه شيء لا يتمّ»(4).

يقول أبو الصلت الهروي: لما عزم المأمون على الذهاب إلى العراق والإمام معه، بدا لهم أن يدسّوا له السمّ، فدخل عليه رسول المأمون يستدعيه، فلما دخل عليه ناوله رمّانا اعتصره بيده وكان قد دسّ فيه السم، أو عنقود عنب قد أكل نصفه وقد كان شرّبه بالسم، وقال للرضا عليه السلام: حمل إليّ هذا العنقود، فاستطبته، فأكلت منه وتركت هذا لك. فقال عليه السلام: «أو تعفيني من ذلك؟». قال: لا والله، فإنك تسرّني بما تأكل منه. فاستعفاه الإمام عليه السلام ثلاث مرات فلم يقبل منه، فأخذ عليه السلام منه ثلاث حبات فأكلها، فلمّا أحسّ عليه السلام بالسمّ يسري في بدنه، غطّى رأسه ونهض من عنده.

ولما أتى عليه السلام بيته دخل حجرته، وامتدّ على فراشه وهو يتألّم من حرارة السمّ، وأحسّ عليه السلام به يسري في بدنه، ومرّت به ساعات يمتزج فيها الألم بالشعور بالغربة والبعد عن الأهل، وفي الساعة التي دنا فيها أجله جلست عنده، ثم طلب مني أن اُسجّيَه إلى القبلة، فأسبل يديه ورجليه وفاضت روحه الطاهرة.

وإذا المأمون قد وافى، وهرع الناس كلّا ً ينادي: وا سيّداه، وا إماماه. وتصدّر المأمون تشييعه حتى جاؤوا به إلى قبره(5).

ونقول: لكن جدّه الحسين عليه السلام لم يشيّعه أحد، ولم يدفن لساعته، وقفت الحوراء زينب عليها السلام بعد وقعة الطف في اليوم العاشر من المحرّم وتلفّتت يمينا وشمالاً ثم صاحت: «ويحكم، أما لهذا المسجى من عشيرة؟ أما فيكم مسلم يواري هذا الغريب؟ أما فيكم موحّد يدفن هذا السليب؟». يروي أبو الصلت فيقول: أمرني الرضا عليه السلام أن اُسرج في موضع غسله. ويعلله البعض بأن الروح تعود إلى موضع الجسد؛ فإن رأته مظلما استوحشت، ولست أدري هل أسرجت الحوراء ليلة الحادي عشر من المحرّم مكان إخوتها وأبناء عمومتها أسرجة، أم بقيت مصارعهم مظلمة تلك الليلة، والأطفال يتصارخون في الظلماء؟

وحائراتٍ أطارَ القومُ أعينَها *** رُعبَا غَدَاةَ عَليها خِدرَها هَجموا

عجَّتْ بهم مُذْ على أبرادِها اختَلَفَت *** أيدي العدوِّ ولكن من لها بِهِمُ(6)

يتبع…

______________

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 171 ـ 173.

(2) المصدر نفسه.

(3) الأمالي ( الصدوق ): 125 – 128 / 115.

(4) انظر: مناقب آل أبي طالب 3: 473، الخرائج والجرائح 1: 352 – 359.

(5) انظر روضة الواعظين: 226 / 8.

(6) ديوان السيّد حيدر الحلّي 2: 103.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة