كشكول الوائلي _ 214

img

الجوانب الأخلاقية في حياة الإمام عليه السلام

وعلى العموم كان الإمام عليه السلام يتصدّى دائما إلى الإجابات العلمية، وكانت الأسئلة تنهال عليه، وكان يوزّع وقته بين الإجابة على الأسئلة العلمية وبين الإجابة على غيرها من الأسئلة. وإضافة إلى هذا كان بيته مأمنا للخائف، وكانت داره مرتاد الوّفاد. يقول الغفاري: كان لرجل من آل أبي رافع ـ ورافع هذا كان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان منهم كاتب عند أمير المؤمنين عليه السلام ـ علي حقّ، فألح عليّ في الطلب، فأتيت الرضا عليه السلام، وقلت له: يابن رسول اللّه؛ إن لمولاك فلان عليّ حقّا، وقد شهرني.

يقول: وكنت آمل أنه يرسل خلفه من يأتيه به، وأمره بأن يخفّ طلبه ماله مني قليلاً، حتى ييسّر الله لي، لكنه عليه السلام طلب مني أن أنتظره في مكاني، ثم ذهب ولم يعد إليّ إلاّ عند المغرب، وكنت صائما، وقد أحسست بالجوع. فلمّا جاء قال لي: «لعلك لم تأكل». فقلت: نعم. فأخذني معه إلى منزله، ثم أمرني بالجلوس على الوسادة، فلما أكلنا وفرغنا قال: «ارفع الوسادة وخذ ما تحتها». فرفعتها فإذا بدنانير تحتها، فأخذتها، وأمر غلمانه بأن يوصلوني إلى بيتي، فطلبت منه أن اُرجعهم من مكان معلوم، ولمّا سألني السبب، أجبته بأني أخشى الوالي، فقبل.

فلمّا أتيت المنزل نظرت إلى الدنانير فإذا هي ثمانية وأربعون دينارا، وفيها دينار يلوح، منقوش عليه: «حق الرجل عليك ثمانية وعشرون دينارا، وما بقي فهو لك». ووالله لم أكن قد عرّفت ماله عليّ على التحديد(1).

وهذا كان ديدن الإمام عليه السلام ـ ومن قبله طريقة آبائه وأجداده عليهم السلام ـ سواء في خراسان أو في أيام مكثه في المدينة المنوّرة؛ فهو عليه السلام معروف بعطائه المعنوي والمادّي والأخلاقي. يروي أحد المؤرّخين عن إبراهيم بن العباس أنه قال: «ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه السلام جفا أحدا بكلمة قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحدا عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجله بين يدي جليس له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليس قطّ، ولا رأيته شتم أحدا من مواليه ومماليكه قطّ، ولا رأيته بصق ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسّم. وإذا خلا ونصب مائدته أجلس معه عليها مماليكه وموإليه، حتى البوّاب والسائس.

وكان عليه السلام قليل النوم بالليل كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح، وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: «ذلك صوم الدهر». وكان عليه السلام كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقه»(2).

فهذا الخلق العالي، وهذه التربية النبيلة السامية، وهذا الاُسلوب الكريم هو شأن أئمّة أهل البيت النبوي المطهّر عليهم السلام، فهم في حركاتهم وسكناتهم، وفي كلامهم وسكوتهم مادّة حيّة للدرس الأخلاقي والمعنوي والوعظي والإرشادي. وكان عليه السلام يقول: «إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد ويخرج من بطن اُمّه فيرى الدنيا، ويوم يموت»؛ لأنه يترك هذه الدنيا الواسعة إلى قبر ومجموعة من الأحجار والصفائح، يقول الشاعر:

ومسنَّدين على الجُنوب كأنهم *** شِرب تخاذل بالطلا أَعضاؤهُ

تحت الصعيد لغير إشفاق إلى *** يوم المعاد يضمّهم أحشاؤهُ

أَكلتهُمُ الأرضُ التي ولدتْهُمُ *** أكلَ الضَّروس حلت له اُكلاؤهُ(3)

ويتابع عليه السلام موعظته فيقول: «فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا. و قد سلّم الله عزّ وجلّ على يحيى عليه السلام في هذه الثلاثة المواطن، و آمن روعته، فقال: وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا(4)، وقد سلّم عيسى بن مريم عليه السلام على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال: وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا(5)»(6). وقد صوّر اللّه‏ تعالى حال هؤلاء بقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(7).

فهو عليه السلام يقول: «إنّ الإنسان أوحش ما يكون في هذه المواطن»، ولذلك فإن اللّه سلّم على أنبيائه فيها فكان الإمام عليه السلام يغتنم الفرص للدرس الأخلاقي والدرس الاجتماعي والدرس العلمي بفروعه كافّة، وكانت حياته عامرة بالتقوى، زاخرة بالإيمان، وكان لسانه يلهج بذكر اللّه، ويده متمرّسة بالعطاء، وروحه منفتحة عليه.

يتبع…

__________________

(1) مناقب آل أبي طالب 3: 456، بحار الأنوار 49: 59 / 76.

(2) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 197 – 199 / 7.

(3) شرح نهج البلاغة 11: 174.

(4) مريم: 15.

(5) مريم: 33.

(6) بحارالأنوار 6: 58 / 18.

(7) يس: 52.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة