كشكول الوائلي _ 211

img

المباحث العامّة للموضوع

المبحث الأوّل: في ولادته الكريمة ونشأته

ولد الإمام الرضا عليه السلام سنة مئة وثمانية وأربعين للهجرة، ومجموع عمره الشريف خمس وخمسون سنة؛ لأنّه توفي عام مئتين وثلاثة للهجرة، وهو بمقدار عمر أبيه الإمام الكاظم عليه السلام. وكانت ولادته في المدينة المنوّرة في دارهم المعروفة بالعريض، واُمّه اُمّ ولد نوبية يقال لها أروى، وتلقّب بشقراء، يقول هشام بن أشقر: قال لي أبو الحسن الأول عليه السلام : «هل علمت أحدا من أهل المغرب قدم؟». قلت: لا. قال: «بلى، قد قدم رجل من أهل المغرب المدينة، فانطلق بنا». فركب وركبت معه حتى انتهينا إلى الرجل، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق، فقلت له: اعرض علينا. فعرض علينا سبع جوارٍ، كل ذلك يقول أبو الحسن عليه السلام : «لا حاجة لي فيها».

ثم قال: «اعرض علينا». فقال: ليس عندي إلا جارية مريضة. فقال له: «ما عليك أن تعرضها؟». فأبى عليه، فانصرف ثم أرسلني من الغد، فقال لي: «قل له: كم كان غايتك فيها؟ فإذا قال لك: كذا و كذا، فقل: قد أخذتها». فأتيته فقال: ما كنت اُريد أن اُنقصها من كذا و كذا. فقلت: قد أخذتها. قال: هي لك، ولكن أخبرني من الرجل الذي كان معك بالأمس؟ قلت: رجل من بني هاشم. قال: من أي بني هاشم؟ فقلت: ما عندي أكثر من هذا. فقال: اُخبرك أني اشتريتها من أقصى المغرب، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب، فقالت: ما هذه الوصيفة معك؟ قلت: اشتريتها لنفسي. فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه عند مثلك، إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض، فلا تلبث عنده إلا قليلاً حتى تلد غلاما لم يولد بشرق الأرض و لا غربها مثله. قال فأتيته بها، فلم تلبث عنده إلاّ قليلاً حتى ولدت الرضا عليه السلام(1).

لماذا الزواج من الجواري والسراري

إذن كان الإمام الرضا عليه السلام ابن جارية، وهذه الظاهرة ليست غريبة، ولا فريدة في تاريخ أهل البيت عليه السلام، والزواج من الجواري من الاُمور التي دعا إليها الإسلام وحثّ على فعلها. وهناك عدّة أهداف يرمي إليها الإسلام من وراء تزوّج الجواري والسراري، وهذا هو الذي يفسر لنا سرّ إقبال أهل البيت عليهم السلام على الزواج من الجواري، ومن هذه الأهداف:

الهدف الأوّل: كسر نظرة التعالي عند العرب لغيرهم من الشعوب

وإنّما قلنا: إنها ظاهرة ليست غريبة في حياتهم عليه السلام؛ لأ ن غيرهم سيستغربها حقّاً، فالعرب كانوا يحتقرون ابن الجارية ويعتبرونه هجينا، وهي نظرة جاهلية لا تنسجم مع العقل ولا مع الشرائع السماوية، وإنما تنسجم مع التقاليد. فالعقل يقول غير ذلك؛ لأ ن هذه الجارية ربما كانت تتحدّر من حضارة أضخم من حضارة العرب آنذاك. هذا من ناحية العقل، أما من ناحية الإسلام فإنّه دين سماوي عالمي ورسالة عامّة، ويريد أن يجعل الشعوب مندمجة مع بعضها بلا فرق بين هذا الشعب وذاك بالعرق والقومية أو اللون أو المنطقة الجغرافية. وهذا أوّل أهداف الإسلام.

الهدف الثاني: تخفيف وطأة الفتح على أبناء البلاد المفتوحة

فالإسلام يريد بهذا أيضا أن يخفّف من وقع الفتح ووطأته على نفوس أبناء البلاد المفتوحة التي لم يسلم الإسلام من بقايا عقد ضدّه ظلت راسخة في نفوس أهلها؛ كونه فتح بلادهم وغيّر نظام الحكم والسلطة والقوانين وأثّر في حضاراتهم.وهذا الشيء بطبيعة الحال ليس سهلاً عليهم أبدا.

ولو رجعنا إلى الحروب الحديثة في تاريخنا المعاصر كالحرب العالمية الثانية لوجدنا أن الدول أو المدن التي احتلّها الحلفاء لم تستقر إلى أن رجع المحتلّ عنها، كألمانيا على سبيل المثال، فليس سهلاً أن يأتي المحتلّ إلى بلد فينظر له الناس فيه نظرة طبيعية، إنّ الشعوب تنظر إلى المحتل نظرة متشنجة. وهذا ما دفع الإسلام إلى وضع مجموعة نظم في التعامل مع هذه الشعوب تهدف إلى امتصاص هذه النظرة المتشنجة إن لم نقل: اجتثاثها.

ومن هذه الطرق فتح باب الزواج من الجواري والسراري على مصراعيه، وهو نظام دفع المسلمين إلى الزواج من أكبر قدر من نساء هذه البلاد المفتوحة بوجه شرعي وسليم، ممّا أدّى إلى اختلاط الدماء والتدرّج في القضاء على نظرة التعالي التي كان العرب ينظرون بها إلى أبناء الشعوب الاُخرى. وبهذا أصبحنا نرى الكثير من أشراف القوم واُمهاتهم غير عربيات، فهذا اُمّه روميّة وذاك صقلّية والثالث فارسية، فالتقت الشعوب مع بعضها واندمجت بالمصاهرة، وأصبح الاتّصال قائما بين الاُمم على مختلف أجناسها وألوانها وأعراقها؛ مما أدّى إلى امتصاص النقمة.

الهدف الثالث: إيجاد حالة من التلاقح الفكري

والهدف الآخر الذي يسعى إليه الإسلام الحنيف من وراء حث المسلمين على الزواج من الجواري هو تسهيل عملية التبادل والتواصل الفكريين بين الشعوب المتصاهرة؛ لأ ن امتزاج الدماء يسهّل عملية التبادل بالأفكار بين الطرفين، ويقرب ما بينها؛ إذ أنه سيكون بينهما تزاور وتبادل علاقات، وبالتالي تحصل عملية نقل الأفكار والحضارات من شعب إلى شعب(2).

إذن عملية التزاوج تلعب دورا مهمّا في إحداث حالة من الانسجام والتبادل الفكري وكسر حاجز الترفّع بين الشعوب المتصاهرة، وهذا ما حصل فعلاً؛ وهو الذي دفع بالاسلام كما قلنا إلى وضع هذا التشريع.

يتبع…

_________________

(1) الإرشاد 2: 254 ـ 255، مناقب آل أبي طالب 4: 363.

(2) انظر هذا المطلب كاملاً في محاضرة ( قبسات من حياة السجاد عليه السلام ) في ج 4 من موسوعة محاضرات الوائلي.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة