كشكول الوائلي _ 210

img

أسباب اصطحابه عليه السلام بنات الرسالة

ولهذا الأمر مبرّرات عدّة ووجيهة على الرغم من اعتراضات البعض على هذا الإجراء، وأنه أدّى إلى سبي العائلة وهتك حرمتها والتسبّب في جلب الأذى لها. لكن كما قلنا: إنّ هذا الإجراء مبرّر بما هو أهم من سبي العائلة وأوجه من تعرّضها للأذى، وبما هو موازٍ لذلك الأذى فيما لو خلفهم في المدينة المنوّرة، ومن هذه الأسباب:

الأوّل: أنّ الاُمويين سيعتقلونهم ولو لم يخرجوا

إنّ أوّل الأسباب التي حدت بالإمام الحسين عليه السلام أن يخرج عائلته معه هو علمه المسبق ومعرفته بأنّ الاُمويين سيعتقلون عائلته حتى ولو لم يخرجهم معه. والاُمويون هذا شأنهم، فقد كبسوا على عائلة عمرو بن الحمق الخزاعي بيتهم، وكذلك دار سعد بن أبي سرح، فكيف سيكون الأمر مع عائلة من خرج ثائرا على دولتهم وسلطانهم؟ فهو عليه السلام يعرف أنه لو ترك عائلته في مدينة جدّه لكان مصيرها الاعتقال والسبي، فالأمر سيان؛ خرجوا معه أو بقوا في المدينة.

الثاني: إبراز دور المرأة في معركة الطفّ

ثم إنّ سيد الشهداء عليه السلام كان ينظر إلى أمر هو أبعد من مرمى نظر القاعدين غيره ممّن يعترضون على إبراز بنات الرسالة معه إلى المعركة، فهو عليه السلام يريد أن يبرهن على أن المرأة التي يربيها الإسلام لا تقل خطرا وصلاحية عن الرجل فيما يمكن أن يضطلع به ويقوم بتنفيذه. فهذه المرأة المسلمة إذا وضعت في الأجواء التي يريدها الإسلام فإنها ستُلفى طاقة تتفجّر. وهكذا كانت الحوراء زينب (سلام اللّه عليها)، فقد كانت طاقة متفجّرة لا حدود لها، ولا تخشى الظالمين ولا تخاف من قرع سياطهم، وكان الإمام الحسين عليه السلام قد أخرجها معه لمعرفته بما يمكن أن تقوم به من دور بعد استشهاده.

ثم إنه عليه السلام يريد أن يبرهن خطأ ما في أذهان البعض من الناس من وهم أن المرأة لا تستطيع أن تقوم بالأعمال التي يقوم بها الرجل. وهذا ما قامت به زينب عليها السلام وأخواتها، حيث قمن بأداء هذه الأدوار على أتم وجه وأكمل صورة.

الثالث: أن تكون الواجهة الإعلامية لمرحلة ما بعد الثورة

وكذلك من دواعي إخراج الإمام عليه السلام عائلته معه وزينب بالذات أن يكنّ اللسان المعبّر لنهضته عليه السلام بعد الثورة. وهذا أمر ضروري جدا، لأنّ الإعلام الاُموي إبّان الثورة الحسينية المباركة وبعدها كان في أوج قوّته ونشاطه وشدّته. وفعلاً انخدع المغفّلون بما وصفوهم به من أنهم خوارج بغاة على إمام زمانهم.. اُدخلت العائلة الهاشمية في أسوأ حال إلى مجلس يزيد وهم ينعتونهم بالخوارح، وكان عنده رسول قيصر، وكان من أشراف الروم وعظمائهم، فلمّا اُتي برأس الحسين عليه السلام سأله قائلاً: هذا رأس من؟ فقال له يزيد: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب. فقال الرومي: ومن اُمّه؟ فقال: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال النصراني: اُفّ لك ولدينك، لي دين أحسن من دينكم.

ثم قال ليزيد: هل سمعت حديث كنيسة الحافر؟ فقال له: قل حتى أسمع. فقال: هي كنيسة في محرابها حقّة ذهب معلّق فيها حافر يقولون: إن هذا حافر حمار كان يركبه عيسى عليه السلام، وقد زيّنوا ما حول الحقّة بالديباج، ويقصدها في كل عام عالم من النصارى ويطوفون حولها ويقبّلونها، ويرفعون حوائجهم إلى الله تعالى عندها، هذا شأنهم ورأيهم بحافر حمار يزعمون أنه حافر حمار كان يركبه عيسى عليه السلام، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم؟ فلا بارك الله تعالى فيكم ولا في دينكم. فقال يزيد: اقتلوا هذا النصراني لئلاّ يفضحني في بلاده. فقُتل(1).

فهذا الرسول يريد أن يبيّن له أن بيت النبي صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يفرز خوارج.

إذن كان مراد الإمام عليه السلام من زينب أن تكون الصوت المعبّر لأهداف الثورة وعنها؛ لأ نّها أهل لذلك، ولأ نّها الامتداد الطبيعي لموقف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ولأ نها صوت الإسلام كلّه، ولأ نّه لا سبيل إلى بلوغ ذلك ـ نشر أهداف الثورة ـ إلاّ باللسان المعبّر الذي لا يحصر ولا يعتريه العيّ.. لسان أمير المؤمنين عليه السلام الهادر كالسيل حتى وإن كان مصير ذلك هو القتل، وحتى لو ترتب على أداء هذا الدور وهذه الرسالة السبي والضرب؛ لأ نّ الحسين عليه السلام ينتمي لموكب الشهداء.. إلى الألسن المعبّرة عن رسالة الإسلام، وكذلك أهله.

وآباء الإمام الحسين عليهم السلام لم يمت منهم أحد على فراشه(2)؛ فأبوه عليه السلام قد قتل، وأعمامه قتلوا وإخوانه وأبناء أعمامه وأبناؤهم كلهم قتلوا في ساحات الشرف والدفاع عن الإسلام ورسالته. يروى أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان كثير البكاء، وكلما ذكر واقعة الطف اشتدّ حزنه وزداد بكاؤه، فدخل عليه أبو حمزة وقال: سيدي إن القتل لكم عادة، وكرامتكم من اللّه الشهادة، إن جدّك صلى الله عليه وآله قتل وأباك عليه السلام قتل، فقال له: «شكر اللّه سعيك يا أبا حمزة، ولكن واللّه ما نظرت عيناي إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وذكرت فرارهن يوم عاشوراء من خباء إلى خباء، ومن خيمة إلى خيمة، والمنادي ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين».

وفعلاً كانت مواكب الشهداء تزدهر بنجوم أهل بيت النبوّة، وكانت قوافلهم متوّجة بشهدائهم وأبطالهم، فأناروا للإنسانية طريقها، وصنعوا لواءً يرفرف للأحرار في كل مكان وزمان:

فدمٌ أَرَقتَ كأنه من جِدَّةٍ *** لِلآن يعبِقُ بالثَّرى ويُخَضِّبُ

وتَركتَ للأجيالِ حِينَ يَلُزُّهَا *** عَنَتُ السُّرى ويَضَيقُ عَنها المَهرَبُ

جُثَثَ الضَّحَايَا من بَنيكَ تُريهُمُ *** أنَّ الحُقُوقَ بِمثلِ ذلكَ تُطلَبُ

فقافلة شهداء البيت الهاشمي وموكب شهداء البيت النبوي المطهّر وضعت دماءها على أكفّها وبين يدي اللّه لتريقها في سبيله، وهي قافلة اختطّت التضحية من أجل إبلاغ رسالة الإسلام:

أترعتني دنياك حتى إذا جئـ *** ـت اُناجيك أجفلت ألواحي

وتهاوى شعري أمام خطيب *** عبقري أقمته من جراحي

لم تفجّر لظاك يهدر بالحـ *** ـقّ لتروي قرائح المدّاحِ

رُدّنا إننا ظِماء إلى طـ *** ـفّ جديد يعيدنا للكفاحِ (3)

غريب طوس عليه السلام

سيدي يا أبا الجواد ويا بن الـ *** ـحبر موسى ويا مناط الرجاءِ

يا مقيما بقلب كل محبّ *** ولوَ ان المدى بعيدٌ ناءِ

يا بن أصلاب من أعزّ رجال *** وابن أرحام من أعفّ نساءِ

يتبع…

_____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف: 110 – 112، ينابيع المودّة 3: 29، وكان قد قال له من ضمن ما قال: إن أبي من حوافد داود عليه السلام، وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يعظّمونني ويأخذون من تراب قدمي تبرّكا بأني من حوافد داود عليه السلام، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم، وما بينه وبين نبيّكم إلاّ اُم واحدة؟ فأي دين دينكم؟ ثم إنه بعد أن أمر به فقتل، قال له: اعلم أني رأيت البارحة نبيّكم في المنام يقول لي: يا نصراني، أنت من أهل الجنّة. فتعجّبت من كلامه، وإني أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله. ثم وثب إلى رأس الإمام الحسين عليه السلام فضمّه إلى صدره وجعل يقبّله ويبكي حتى قتل.

(2) يقول أمير المؤمنين عليه السلام : «إن أكرم الموت القتل. والذي نفس علي بن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على فراش». نهج البلاغة / الكلام: 123.

(3) ديوان المحاضر 2: 18.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة