كشكول الوائلي _ 193

img

نشاطات الإمام السجاد عليه السلام قبل واقعة الطف

واستمرّ الحال هذا إلى أن لحق الإمام الحسن عليه السلام بالرفيق الأعلى، وكانت الأحداث بين رحيله عليه السلام وواقعة الطف متتالية حافلة بالكثير من الممارسات والأعمال غير المشروعة على الرغم من أ نّها كانت عشر سنين فقط. لقد كانت فترة مشحونة، غير أني أودّ أن اُشير إلى نقطة هامّة هي أن كل من كتب وألّف حول الإمام السّجاد عليه السلام لم يسلّط الأضواء كافية على الفترة التي عاشها قبل واقعة الطف، والتي تبلغ اثنين وعشرين عاما. وهنا اُمور عدّة حول نشاطاته عليه السلام، أرغب في أن اُشير إليها في هذ المجال؛ حيث إنّه عليه السلام بعد بلوغه الثانية عشرة من عمره اُنيطت به مهامّ عدّة في أداء رسالته، وهذه المهام تتوزّع بين عدّة أعمال:

الأوّل: النشاط العلمي

فبعد أن ترعرع الإمام عليه السلام عقد له مجلسا في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وآله، فكان يجلس هناك للفتوى. ويلاحظ أنّ هذا الأمر لم يقتصر على فترة ما قبل الطف، بل إن هذا النشاط استمرّ مع الإمام عليه السلام حتى انتقاله إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. فالذي نريد إثباته هنا أنّ بدايته كانت في تلك السنّ المبكّرة، وهذا الدور الذي اُنيط به عليه السلام لم يتوقف عند هذه الفترة، بل استمرّ معه حتى بعد أن ازدحمت الأحداث عليه سيّما إبّان فترة إمامته، فلم ينقطع عن مجلسه في مسجد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ولا عن نقاشاته العلمية ومحاجّاته وإفتاءاته.

نماذج من محاجّاته عليه السلام

وسأنقل هنا بعض احتجاجاته على من اعترض عليه في أمور كثيرة، ومنها:

الأوّل: حول قول أمير المؤمنين عليه السلام : «إخواننا بغوا علينا»

دخل رجل على زين العابدين عليه السلام فقال: هل تستطيع أن تخبرني كيف قتل أبوك المؤمنين الذين هم إخوانه في الله؟ فبكى علي بن الحسين ثم مسح عينيه وقال: «ويلك، كيف قطعت على أبي أنه قتل المؤمنين؟». قال: لما سألوه عن أهل الجمل: هل نقول عنهم إنهم كفرة؟ فقال: «معاذ الله إنهم قوم يصلّون». فقيل: فماذا نقول؟ قال: «إخواننا قد بغوا علينا، فقاتلناهم على بغيهم». فهو نفسه يعترف بأنهم إخوانه، فكيف قاتلهم؟

وهنا يجد الإمام عليه السلام نفسه أمام واقع منحرف يجب تصحيحه، وأمام مغرّر به ينبغي أن يصحّح له فكره هذا؛ لأن البعض يتعامل مع الاُمور بشكل حرفي، فيأخذ جانبا واحدا من جوانب المسألة فقط دون أن يستوعبها كاملة، فقال عليه السلام له: «ويلك أما تقرأ القرآن؟». قال: بلى. قال: «فقد قال اللّه: وَإلَى مَدْيَنَ أخَاهُمْ شُعَيْبا، وإلى ثمود أخاهم صالحاً، فكانوا إخوانهم في دينهم أو في عشيرتهم؟». أي أنه عليه السلام يريد أن يقول له: إن أهل مدين كفرة وشعيبا نبيٌّ، وكذلك ثمود، فكيف عبّر عنهم بأنهم إخوة مع ما هم عليه من ضلال؟ فقال له الرجل: لا بل في عشيرتهم؟ فقال عليه السلام : «فهوءلاء إخوانهم في عشيرتهم، وليسوا إخوانهم في دينهم».

واُلفت نظرك إلى أن القرآن الكريم يعبّر دائما عن الأنبياء عليهم السلام بأنهم إخوان قومهم. فقال له ذلك الرجل: فرّجت عني فرجّ اللّه عنك (1).

الثاني: حول زواج النبي صلى الله عليه وآله من زينب ابنة جحش

وكمثال آخر على نشاطاته العلميّة سأله أحد المسلمين قائلاً: لماذا أقدم جدّك رسول اللّه صلى الله عليه وآله على الزواج من زينب بنت جحش؟ هل كان يعشقها، وكان يخفي ذلك في نفسه؟ فأجابه الإمام عليه السلام : «إن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه، وأن زيداً سيطلّقها. فلمّا جاء زيد وقال له: اُريد أن اُطلّق زينب. قال له صلى الله عليه وآله: أمسك عليك زوجك. فقال سبحانه: لم قلت: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا: حاجة بحيث ملّها ولم يبقَ له فيها حاجة وطلّقها، وانقضت عدّتها زَوَّجْنَاكَهَا»(2).

فهو عليه السلام يقول له: إن هذه ابنة عمّته وهو يعرفها، ولو أراد أن يتزوّجها لفعل، ولكن الرسول أراد أن يكسر بها عرفا جاهليّا وهو مسألة التبنّي، إذ كان العرب إذا تبنّى أحدهم أحدا فإنه يورّثه، وهذا المتبنّى لو تزوّج فإن متبنّيه لا يتزوّج من زوجته فيما لو توفّي.

إنّ زينب ابنة عمة رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وكانت تعيش معه في البيت، ولو أنّ هناك أمراً خلاف ما أراده القرآن كان قد حصل لما زوّجها رسول اللّه من متبنّاه زيد. وهذا المعنى هو الذي حاول المستشرقون أن يصوروا عبره قصة غرام بين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وزينب ابنة جحش، وهؤلاء طبعا لهم هدف واضح وسيّئ هو الطعن بالرسالة والنبوّة وبشخص النبيّ صلى الله عليه وآله نفسه، وإخضاعه إلى مستوى الناس العاديّين. في حين أنّ حقيقة الأمر غير ذلك، فالعرب كانوا لا يرون الزواج من زوجة الربيب أو المتبنّى ويأنفون منه؛ فكانوا إذا أعتق أحدهم عبدا فإن الولاء عندهم يبقى للمعتِق؛ ولذا فهم يأنفون من زواج المعتِق من مطلقة المعتَق أو أرملته، ويعدّونه عارا.

يتبع…

_______________

(1) تفسير العياشي 2: 20 / 53.

(2) التفسير الصافي 4: 191.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة