كشكول الوائلي _ 192

img

المبحث السادس: زهده عليه السلام في الدنيا

لقد كان كل رصيده من الدنيا التي كانت تتكدّس بين يديه حين وفاته عليه السلام سبعمئة درهم أراد أن يشتري بها خادما لأهله؛ لتعينهم على اُمور الطحن وأعمال البيت، فعاجلته الشهادة(1).

فلم تصرعه البيضاء والصفراء، وكان ينظر إليها نظرةَ من يعافها ويزدريها، وكل ما كان يشغله فم جائع يحسّه قريبا منه وإن كان يسير على البعد منه، فهو يحسّه يخاطبه بقوله: إنك مسؤول عن جوعي. لقد سمعناه يصغي لأنّات المظلومين في شرق الأرض وغربها، ويقول: «اللهم اشهد على علي بن أبي طالب فقد أدّى إلى عبادك حقوقهم». وكان يتمثّل دائما بقوله:

 هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جانٍ يده إلى فيه(2)

فكان عليه السلام يذود عنه الذهب والفضة، ويتحاشاهما:

 ما سرّه أن يرى الدنيا له ذهبا *** وفي البلاد قلوب شفّها السغبُ(3)

وكان عليه السلام يقول: «يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم»(4) وكان عليه السلام يأكل العجوة والخل ويلبس لباس المساكين، فكان رصيده من الدنيا أن سجدت هي على أبوابه وأعتابه:

إن بيتا أضلاعُه من جريد النـ *** ـخل والسقفُ والفراشُ حصيرُ

سجد النجم فوق رملته السمـ *** ـراءِ واستشرفت مداه العصورُ

المبحث السابع: جزاؤه عليه السلام في الدنيا

فحسبك أبا تراب أنك أخذت قلوبا من الناس فسكنتها، وحللت بمشاعرهم،وما يقدم الذهب والفضة وما يؤخران؛ سواء كانا لك أم لغيرك؟

لقد كان رصيده من العواطف لا حدود له، فقد امتلك قلوب المؤمنين كما ذكرنا، وهذا ما يشهد له قول النبي صلى الله عليه وآله: «لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»(5)، وقوله صلى الله عليه وآله له كذلك: «إن الله عزّ وجلّ رسّخ حبي في قلوب المؤمنين وكذلك رسّخ حبّك يا علي في قلوب المؤمنين، ورسّخ بغضي وبغضك في قلوب المنافقين؛ فلا يحبّك إلاّ مؤمن تقي، ولا يبغضك إلاّ منافق كافر»(6).

فيامن سكنت إليك قلوب المؤمنين، إنّ القلوب لتتقرّح عليك أسىً وهي تحسّ بأنك في مثل هذه الليلة قد اشتدّت بك العلّة، وسرى السم في بدنك، وعلت الصفرة وجهك الشريف، وهدأ الصوت الهادر، وخلا المحراب من فارسه المصلّي ليله ونهاره، وإن العيون لتدمع لعينيك وقد غارتا، تلكما العينان اللتان كانتا تبكيان من خشية اللّه تعالى وتقرّحتا وسهرتا في سبيله حتى ذبلتا. يقول سويد بن غفلة: دخلت ومعي نفر من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، ومنهم الأصبغ إلى داره بعد إصابته، فسمعنا البكاء والنحيب من داخل الدار، فما استطعنا أن نسكت، وعلا نحيبنا، فخرج الإمام الحسن عليه السلام إلينا وقال: «إن أمير المؤمنين يقول لكم: انصرفوا وارجعوا».

يقول الأصبغ: فرجع الناس إلاّ أنا لم تطاوعني قدماي، فرجع الإمام الحسن عليه السلام وقال: «ألم أقل لكم: ارجعوا؟». فقلت: سيدي، واللّه لا تطاوعني قدماي. قال: «ادخل». فدخلت، ولمّا وقع بصري على أمير المؤمنين عليه السلام رأيت رأسه وقد عُصب بعصابة صفراء، واللّه ما أدري أوجهه أشدّ اصفرارا أم العصابة، فبكيت عند ذلك فالتفت إليَّ أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: «يا أصبغ لا تبكِ، إنها واللّه الجنّة». قلت: سيدي، أنا أعلم أنها الجنّة ولكني أبكي لفراقك. ثم دخل عمرو بن الحمق الخزاعي فقال له: إن هذه الضربة مخدشة، وليست أعظم من ضربة عمرو بن ودّ العامري. فقال أمير المؤمنين عليه السلام : «إني مفارقكم وراحل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله». عند ذلك سمعت النساء، وعلت أصواتهن بالبكاء واشتدّ ضجيجهن(7).

يتبع…

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1: 162، الفتوح (ابن أعثم) 4: 146، الاستيعاب (هامش الإصابة) 3: 48، تاريخ الإسلام 2: 207. وقد أمر عليه السلام بردّه إلى بيت المال بعد وفاته كما في الفتوح 4: 146.

(2) الأمالي (الصدوق): 257 / 440، الفائق في غريب الحديث 3: 175.

(3) البيت للشيخ عبد المهدي مطر. من مواليد النجف الأشرف سنة (1900) م، وكان عضوا عاملاً في جمعية منتدى النشر في النجف منذ إنشائها. تولّى تدريس النحو في كلّيّة الفقه. أعيان الشيعة 1: 558، مستدركات أعيان الشيعة 1: 112 – 113.

(4) نهج البلاغة / الحكمة: 241.

(5) مسند أحمد 1: 95، 128، الجامع الصحيح (سنن الترمذي) 5: 306، كنز العمّال 11: 598 / 32878.

(6) الخصال: 577.

(7) الأنوار العلوية: 382.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة