كشكول الوائلي _ 185

img

المبحث الثاني: الإمام عليه السلام ينذر حياته دفاعا عن الإسلام وصاحبه صلى الله عليه وآله

لقد كان عليه السلام منذ أن بعث اللّه تعالى نبيّه محمدا صلى الله عليه وآله برسالته وحتى هجرته الشريفة واضعا يده على قائم سيفه، ينافح ويكافح من أجل رسول اللّه صلى الله عليه وآله ومن أجل هذه الدعوة المباركة الجديدة. وكان عليه السلام بهذا يعرّض نفسه للحجارة والآلام والمخاطر في سبيل هذا الهدف الشريف، وكان نصيبه من الاضطهاد كبيرا؛ حيث إنّه عليه السلام كان يلاقي كل ما كان يلاقيه رسول اللّه صلى الله عليه وآله؛ لأنّه كان يلازمه كظلّه، ويدافع عنه دفاع المستميت.

دوره عليه السلام في حفظ الإسلام

وعندما هاجر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والمسلمون إلى المدينة كان عمر الإمام علي عليه السلام ثلاثا وعشرين سنة، وفي السنة الاُولى من الهجرة تزوّج من سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام. وكانت السنوات العشر الاُولى التي قضاها في المدينة المنوّرة مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله تعدّ مركز الثقل في حياته عليه السلام من نواحٍ متعددة؛ لأنّ الإسلام بني خلال هذه السنوات العشر، وفيها تأسّس المجتمع المدني. وقد كان لأمير المؤمنين عليه السلام الإسهام الأكبر في بناء هذا الدين والمجتمع على الأصعدة المدنية والحربية، وكل ذلك خدمةً للنبي صلى الله عليه وآله ورسالته، خدمة خالصةً لوجه اللّه تعالى.

وبعد وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وارتحاله إلى الرفيق الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر ـ وكان عمره الشريف آنذاك ثلاثا وثلاثين سنة ـ عاش خمسا وعشرين سنة مع الخلفاء إبان فترة حكمهم، حيث بلغ من العمر ثمانيا وخمسين سنة. ولم يكن عليه السلام خلال فترة حكم الخلفاء الثلاثة مجمّدا أو يمتنع عن أن يكون له دوره الفاعل في حياة المجتمع والدولة، بل كان يشارك في كل الفعاليات بكل ما يمكنه المشاركة به، فكان عنصرا ذا وجود واضح على الساحة الإسلامية في المدينة، يتدخّل ليبدي رأيه في كثير من أمور الدولة والناس ومشاكلها ومشاكلهم(1).

وبعد استلامه عليه السلام دفّة الخلافة سنة (36) هـ بقي في المدينة المنوّرة، لكنه عليه السلام ارتحل عنها إلى الكوفة بعد واقعة الجمل سنة (37) هـ، وبقي فيها حتى استشهاده عليه السلام عن عمر يبلغ الثالثة والستين عاما. وكانت فترة حكمه أربع سنوات وثمانية أشهر. يقول أحد الشعراء:

ستّون عاما فخاما في حصائلها *** وإن تبدّى قليلاً عندها العدد

لقد كان عمره الشريف كما قلنا (63) سنة، لكن هل هذا هو العمر الحقيقي له (سلام اللّه عليه)؟ كلاّ؛ إنّه لازال في صميم الحياة، فالعمر يقدّر بالعطاء، وعمره الشريف (سلام اللّه عليه) متدفّق بالعطاء، مفعم بالإخلاص والتفاني في خدمة دين اللّه تعالى. وهكذا كان عليه السلام منذ دخوله الدنيا وحتى خروجه منها، ويظل عطاؤه يتوالد؛ فنظرياته تمسح كل أبعاد المعرفة:

ستلقاه حيّا في الروائع كلها *** وفي كل سفر من روائعه فكرُ

فإن قيل هذا قبره قلت أربعوا *** أهذا الكيان الضخم يجمعه قبرُ

ولكنه باب إلى معطياته *** يمدّ غناه من بساحته فقرُ

فما يزال علي حيّا بنظرياته وفكره وأخلاقياته وقيمه، وسيبقى حيّا وعطاءً بعد عطاء إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها. وهذه هي حصيلة عمر علي بن أبي طالب عليه السلام الإحصائية.

يتبع…

________________________

(1) لعلّ في تدخّله عليه السلام في كثير من أحكام القضاء التي قضى بها الخلفاء الثلاثة، انظر: الإرشاد 1: 205 ـ 206، شجرة طوبى 2: 418.

 وفي مشورته على الخلفاء في اُمور الدولة؛ كقضية التاريخ، انظر: تاريخ الطبري 2: 3، البداية والنهاية 7: 85، الكامل في التاريخ 1: 11.

 ومنعه الخليفة الثاني من الذهاب بنفسه إلى المعركة حيث قال له: « نَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللّه‏ِ، وَاللّه‏ُ مُنْجِزٌ وَعْدَه، وَنَاصِرٌ جُنْدَه. وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ؛ فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً.

 وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلاً، فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالاْءِسْلاَمِ، عَزِيزُونَ بِالاجْتِمَاعِ! فَكُنْ قُطْبا، وَاسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هذِهِ الأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَورَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ. إِنَّ الأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَدا يَقُولُوا: هذَا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ، فَيَكُونُ ذلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ، وَطَمَعِهِمْ فِيكَ.

 فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ اللّه‏َ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ ». انظر: نهج البلاغة / الخطبة: 146. أكبر دليل على ذلك.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة