كشكول الوائلي _ 183

img

الثالثة: الاُمويون وقضيّة تدوين التاريخ

وحول هذه الواقعة لنا وقفة ثالثة أيضا تتعلّق بتدوين التاريخ التي صاحبها محاولات عديدة لطمس وجه الحقّ والحقيقة سيما فيما يتعلّق بأهل البيت عليهم السلام والأنصار، إنّ ابن الشهاب يعدّ مصدرا من مصادر كتابة التاريخ عند المسلمين، وقد كتبه تحت عيون الاُمويين ورقابتهم؛ لأ نّهم هم الذين أناطوا أمر كتابته به، ولما شرع بكتابته واجهته مشكلة في صميم عمله، وهي قضيّة الروايات التي تمدح أمير المؤمنين عليه السلام، فكان أن نهوه عن تدوينها. وكذلك نجد مثلاً أحد كتّاب الوالي الاُمويّ خالد بن عبد اللّه القسريّ على الكوفة ـ وهو ممّن كتبوا التاريخ الإسلامي ـ يسأله عن مصير الروايات التي فيها مدح لأمير المؤمنين عليه السلام؛ فهل يذكرها، أم لا؟ فقال له خالد: لا تذكرها إلاّ أن تجده في قعر جهنم.

ومن هذا القبيل ما يروى أن الرشيد ـ وهو ابن عم علي عليه السلام ـ أرسل خلف أحد العلماء، لأنه أفتى وفق رأي أمير المؤمنين عليه السلام في مسألة التكبيرات في الصلاة على الجنازة، وقال له: ألم تعلم أنّا قد نهينا أن يذكر لهذا الرجل رأي؟ إياك أن أسمع ذلك منك مرّة اُخرى.

وهكذا كان الحكام الطغاة يهدّدون كل من يكتب منقبة أو يذكر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام(1)، فهُدّد ابن الشهاب بأنّ مصيره معروف لديه إن هو كتب فضيلة تروى عن الإمام علي عليه السلام .

ثم يأتي القرطبي ليلج هذا الميدان، فيقول: كان حامل لواء المسلمين في معركة اُحد رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال له طلحة بن عثمان أخو سعيد بن عثمان اللخمي: هل لك في المبارزة؟ قال: نعم. فبدره ذلك الرجل فضربه بالسيف على رأسه حتى وقع السيف في لحييه فقتله، فكان قتل صاحب لواء المشركين تصديقا لرؤيا رسول اللّه صلى الله عليه وآله(2).

مع أنّ الذي قتل في اُحد هو طلحة بن أبي طلحة العبدري (من بيت عبد الدار) ومعه ثمانية منهم أولاده وخادمه، وقد قتلهم أمير المؤمنين عليه السلام . ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية، ونزلت المعركة إلى أن توسّطتها وأصبحت في قلبها، وفي ذلك يقول حسان:

فلولا لواء الحارثية أصبحوا *** يباعون في الأسواق بيع الجلائب(3)

فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام قاتل أصحاب الألوية، لكن القرطبي لم يصرّح باسمه هنا ولم يذكره، فهل تحجب مثل هذه المحاولات الحقائق من تاريخ هذا الرجل العظيم، أم إنّه يبقى على حاله متألّقا يضيء نوره جبهة التاريخ؟

سيدي يا أبا تراب يطيب الـ *** ـغرس فيه وتشرئبّ الجذورُ

أنا فيما ينمى إليك وما تر *** ويه عن وجهك الرؤى المأسورُ

هزني أنني المهوّم في دنـ *** ياك حتى يفيق مني الشعورُ

وتصلّي مشاعري عند محرا *** ب به تُدمن الصلاة العصورُ

فكل نفس مسلمة مذعنة له، وحسب علي عليه السلام ما قدّمه في سبيل خدمة المسلمين؛ ولذا نجد الأرواح تتهاوى على ترابه، وتسجد على رملته السمراء:

على البعد يا وادي السلامِ تحيةً *** لوادٍ ثوت فيه الوجوهُ النواضرُ

تكوّر فيه كلّ جيلٍ بحفرةٍ *** فلخّصت الأجيالَ تلك الحفائرُ

بها يستوي من مات من عهد آدم *** ومن مات من أمسِ فكل دواثرُ

ركائب أجيال تيمّمن ماجدا *** يؤمّل جدواه مقيم وحاضرُ

ومثل عليّ وهو من عزّ مثلُه *** سريّ يرجي رفدَه من يجاورُ

فأمير المؤمنين عليه السلام وقف كل ذرّة من كيانه في خدمة الإسلام، غير أنّ الطغاة والجناة على التاريخ لم يهدأ لهم بال دون أن يحاولوا تشويه صورته، لكن هيهات ذلك. يصعد عبيد اللّه بن زياد على منبر الكوفة ويقول: الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين وحزبه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب وشيعته. فقام له عبد الله بن عفيف الأزدي وقال: يابن مرجانة، إن الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك، أتقتلون أولاد النبيّين: وتتكلّمون بكلام الصدّيقين؟ فأمر به ابن زياد، فمنعه الأزد وانتزعوه من أيدي الجلاوزة، فقال ابن زياد: اذهبوا إليه فائتوني به.

فلما بلغ الأزد اجتمعوا وقبائل اليمن معهم، فبلغ ذلك ابن زياد، فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى ابن الأشعث وأمره بالقتال، فاقتتلوا وقتل بينهم جماعة ووصل أصحاب عبيد الله إلى دار عبد الله بن عفيف،فكسروا الباب واقتحموا عليه، فصاحت ابنته: اتاك القوم من حيث تحذر. فقال: لا عليك، ناوليني سيفي. فناولته، فجعل يذبّ عن نفسه ويقول:

 أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر *** عفيف شيخي وابن اُم عامرِ

كـم دارع مـن جمـعـكـــم وحـاســرِ(4)

يتبع…

________________

(1) إن الأمر لم يقتصر على الحكام الطغاة فقط، بل تعدّاهم إلى الشعوب الإمّعة كما حدث مع النسائي حينما ألّف ( مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ) فقد اجتمع عليه المحدّثون والقرّاء وغيرهم في دمشق ـ وقيل: في فلسطين، وكان قد خرج من مصر وافدا على دمشق ـ في بعض مجالسه، فسأله بعضهم: أيهما أفضل علي أم معاوية؟ فقال على الفور: أما رضي معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضّل؟ وقال: والله لا أعرف له فضيلة إلاّ قول النبي صلى الله عليه وآله: « لا أشبع الله بطنك ». فداسوه بأرجلهم وأخرجوه من الشام مضرورا، فتوجّه نحو مكّة المكرّمة وتوفّي بها متأثّرا بإصابته. وفيات الأعيان 1: 77، النصائح الكافية: 199.

ونقل عنه أنه قال: « دخلت الشام، والمنحرف عن علي عليه السلام بها كثير، فصنّفت كتاب ( الخصائص ) رجوت بذلك أن يهديهم الله ». شذرات الذهب ( ابن العماد الحنبلي ) 2: 240.

(2) الجامع لأحكام القرآن 4: 185.

(3) الجامع لأحكام القرآن 4: 235.

(4) مثير الأحزان: 72 – 73.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة