كشكول الوائلي _ 179

img

من مفارقات المفسرين

فإذا كان القرآن ينفي أهلية ابن نوح عليه السلام فلارتكابه ما يوجب ذلك، وهو تأسيس على إثبات النبي نوح عليه السلام كونه من أهله(1)، وهو ابن صلبي له، وهذا يعني أنّ الابن الصلبي من الأهل ما لم يرتكب ما يوجب طرده عن حضيرة الأهل، فلماذا يُبعد علي وفاطمة والحسنان عليهم السلام عن حضيرة إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(2)؟ يقول بعض المفسّربن: إنّ المقصود به: نساؤه(3)، فلماذا يخرج الولد الصلبي عن كونه أهلاً ـ والولد الصلبي هو فاطمة والحسنان(4) ـ وتلحق المرأة التي تعيش معه بالأهل؟ إنّ فكرنا وتفسيرنا بهذا الشكل يكونان بعيدين عن التفكير العلمي والموضوعي.

وفي واقع الأمر أنّ الأهلية التي أثبتها النبي صلى الله عليه وآله كانت لمجموعة محدّدة من أهله حيث إنه صلى الله عليه وآله قال: « اللهم إن هوءلاء أهلي »، ثم رمق السماء بطرفه الشريف وقال: « أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ». ثلاث مرات(5).

وبهذا الأمر تعرّضت الدكتورة بنت الشاطئ لهجوم عنيف شنّه عليها أحد الكتّاب الصحفيّين؛ فقد حمل عليها لأنها قالت: إن هذه الآية نزلت في حقّ هؤلاء الخمسة عليهم السلام، ورماها بالتخريف(6)، مع أنّ هذا ليس من اختصاصه.

رجـع

فآية المقام مردّدة بين ثلاث وقائع، ومن يقل بأ نّه صلى الله عليه وآله خرج من بيت عائشة فتحسّ منه بأ نّه يخصّها بواقعة اُحد ويسحبها إليها، غير أنّ القرطبي حينما يتناول هذه الآية الكريمة يروي أنّ رجلاً(7) قد قتل حامل لواء المشركين في هذه المعركة، ثم يذكر اسمه وهو غير حامل اللواء الذي قتل في اُحد(8)، وهذا يدلّ على أن هذه الواقعة غير واقعة اُحد.

فالآية الكريمة تقول: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمؤمنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وهناك من كتب عن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله مستغربا من قدرته على إبداع مجتمع ودولة وهو يعيش في الصحراء بين مجتمع متخلّف. ومن هؤلاء مايكل هارث الذي يذكر شهادة عظيمة في حقّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وهي شهادة تحتوي على أربع نقاط فيقول: « كيف استطاع هذا الرجل أن يجمع هذه الاُمور؛ بأن بنى اُمّة، وقاد جيوشا، وأصلح مجتمعا، وغيّر حضارة؟ لابدّ أنّ له طاقات غير محدودة ».

فهذا كاتب موضوعي، والنبي صلى الله عليه وآله يحمل ذهنية القائد المنظّر المفكّر، وكانت خططه الحربية غاية في الإبداع، وقد كتب البعض عنه صلى الله عليه وآله بأ نّه كان يقوم بأعمال لا تصدر إلاّ من إنسان متمرّس. فهو صلى الله عليه وآله يوزع المؤمنين عند القتال كلاًّ في موقعه الذي يناسبه، ويكون انتقاء مقاعد القتال وفق خطّة مدروسة محكمة؛ بحيث إنّه صلى الله عليه وآله يربح المعركة(9) وإن كانت جيوش أعدائه أكبر من جيشه(10). فكان صلى الله عليه وآله يمتلك ذهنية حربيّة وقتاليّة فذّة لا تضاهيها ذهنيّة أبدا.

وهو صلى الله عليه وآله إضافة إلى أنه كان يتولّى قيادة المجتمع، كان يقوم بدور الرائد فيه،حيث إنّه صلى الله عليه وآله كان ينزل قبلهم ويقاتل، غير أنّ أصحابه (رضوان اللّه عليهم) كانوا يمنعونه من هذا ويقولون له: يارسول اللّه، نحن نكفيك ذلك.

وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد تلمذ لرسول اللّه صلى الله عليه وآله، ولذا كان مكانه في صدر الكتيبة(11)، وهو يرتجز ويقول:

دبّوا دبيب النمل لا تفوتوا *** وأصبحوا في حربكم وبيتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا *** أو لا فإني طالما عُصيتُ

قد قلتُمُ لو جئتنا فجيتُ *** ليس لكم ما شئتُمُ وشيتُ (12)

يتبع…

________________

(1) فنفي القرآن كون ابن نوح عليه السلام أهلاً له لا من حيث نفي كون الولد أهلاً على نحو الحقيقة، بل إنه على سبيل نفي الصفة؛ بسبب تهوّره وعدم رجوعه إلى الحقّ والرشد.

(2) الأحزاب: 33.

(3) أحكام القرآن 3: 214، تفسير الثعلبي 8: 36.

(4) أمّا كون الزهراء عليها السلام ولدا له صلى الله عليه وآله، فهذا ما لا نقاش فيه، وأما الحسنان عليهما السلام انظر الكلام فيهما في محاضرة ( البناء الاُسري في الإسلام ) في ج 4 من موسوعة محاضرات الوائلي.

(5) شواهد التنزيل 2: 115 – 110 / 741، فقد روى أن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله أجلس الحسنين عليهما السلام في حجره وأجلس أمير المؤمنين عليه السلام على يمينه وفاطمة عليها السلام على يساره، ثم اجتذب من تحت اُم سلمة ـ راوية الحديث الشريف ـ كساءً خيبريّا، فلفّه صلى الله عليه وآله عليهم جميعا، وأخذ بشماله بطرفي الكساء، وألوى بيده اليمنى إلى ربّه وقال: « اللهم إن هوءلاء أهلي ». تقول اُم سلمة: فقلت: يا رسول الله، ألست من أهلك؟ قال: « بلى ». فأدخلني في الكساء بعدما قضى دعاءه لابن عمّه وابنيه وابنته فاطمة عليهم السلام.

(6) انظر هذا المطلب في محاضرتي ( العقل عند الإمامية ) ج 4، و( دور الروايات الإسرائيلية وأثرها في تراثنا ) ج 6 من موسوعة محاضرات الوائلي، وذكرنا هناك مصادره التي تثبت كون هذه الآية في هؤلاء الخمسة عليهم السلام، وهي مصادر معتبرة عند أهل السنة.

(7) لم يذكر القرطبي اسم أمير المؤمنين عليه السلام مع أن التحقيق يثبت أنه هو عليه السلام، كما سينبّه إليه المحاضر فيما سيأتي من حديث.

(8) الجامع لأحكام القرآن 4: 185.

(9) وقد لاحظنا في موقعة اُحد كيف خسر المسلمون المعركة؛ لمخالفتهم أوامره بعدم ملازمتهم لمقاعد القتال التي بوّأهم إيّاها.

(10) كما هو الحال مع جيش القوّتين العظميين آنذاك: الروم والفرس.

(11) سئل عليه السلام : إذا اشتدّ الوطيس أين نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: «عند مشتبك الرماح».

(12) مناقب آل أبي طالب 2: 362، وقعة صفّين: 403، شرح نهج البلاغة 2: 223، 8: 58.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة