كشكول الوائلي _ 178

img

المبحث الثاني: مناسبة نزول الآية الكريمة

اختلف المفسرون في الغزوة التي نزل فيها قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمؤمنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، فبعض قال: إنّها نزلت في واقعة الخندق، وقال آخرون: إنّها نزلت في واقعة بدر، وقالت طائفة ثالثة: إنّها نزلت في معركة اُحد. فالمناسبة مردّدة بين هذه المعارك الثلاث(1).

الاستدلال بهذه الآية على رضا النبي صلى الله عليه وآله عن عائشة

ويصرّ أحد المفسرين على أن هذه الآية كانت في موقعة اُحد، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله كان في بيت زوجه عائشة، ثم يستدلّ بها على أن زوجته من أهله، ومعنى هذا أنها منسجمة معه تمام الانسجام، وأ نّه راضٍ عنها بدليل أن الله تعالى يخاطب نبيّه نوحا عليه السلام بقوله: قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(2) بعد أن خاطب عليه السلام الله جل وعلا بقوله: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(3). فالله تعالى قد أخرج ابن النبي نوح عليه السلام من أهله مع أنه من صلبه، وهنا يعدّ عائشة من أهله؛ فدلّ بهذاعلى أنها في موضع رضا عنده صلى الله عليه وآله.

ونجيب على هذا بالقول: إننا ليس من شأننا ولا من خلقنا أن نسلب إحدى نساء النبي الكريم صلى الله عليه وآله مكانتها التي هي عليها، أو ننكر منزلة هي لها أو أنزلها اللّه إياها؛ فإنّ نساءه صلى الله عليه وآله موضع احترامنا، لكننا في الوقت نفسه نضعهن أمام المسووليّة؛ فالقرآن الكريم نفسه مدحهن في بعض المواقف(4) وحمّلهن المسؤولية في أعمال اُخرى(5). ثم إنه لا ضير في أنّ إحدى نساء النبي صلى الله عليه وآله كانت عزيزة عنده ويحبها، فهذا شيء طبيعي، لكن لنا أن نسأل: ما المقصود من الأهل في قول النبي نوح عليه السلام : إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي؛ هل هم الأقارب، أم الزوجة فقط؟ إنّ البعض يقول: إنّ الأهل هم كلّ من يحرم الزواج منهم، ويقول غيره: أهلك هم أقرب الناس إليك، كابن الخال وابن العم. فالأهل هم الذين تربطهم بك رابطة الدم.

والقرآن الكريم له اصطلاح آخر، فبالإضافة إلى رابطة الدم نجده يؤكّد على رابطة الروح؛ بدليل خطابه تعالى لنبيه نوح عليه السلام المارّ، مع أن ابنه هذا ابن صلبي له؛ فزوجة النبي نوح عليه السلام لا ترمى بالزنا: « ما زنت امرأة نبيّ قط »(6). فأعراض الأنبياء عليهم السلام محفوظة، أمّا الخيانة التي يذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(7)، أي امرأة لوط ونوح عليهما السلام، فهي ليست خيانة العرض وإنّما هي خيانة الدعوة؛ حيث كانتا منافقتين(8)؛ فامرأة لوط عليه السلام ترشد قومها إلى أضيافه، وامرأة نوح عليه السلام قاتلت وصيّه عليه السلام. وهذا هو المقصود بالخيانة، وإلاّ فإنّ اللّه تعالى لا يبتلي الأنبياء عليهم السلام بأعراضهم.

فقوله تعالى لنوح عليه السلام : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ على سبيل نفيه لارتكابه عملاً أخرجه من حدود الأهليّة؛ أي أنّ الذي يرتكب عملاً لا يرتضيه النبي عليه السلام لا يمكن أن يكون من أهله حتى ولو كان ابنه.

يتبع…

_______________

(1) انظر: مجمع البيان 2: 376، زاد المسير 2: 23، الجامع لأحكام القرآن 4: 184، تفسير القرآن العظيم 1: 410، تفسير الثعالبي 2: 99.

(2) هود: 46.

(3) هود: 45.

(4) فقال تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ الأحزاب: 6.

(5) فقال تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمؤمنينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مؤمناتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا * وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمؤمنينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا الأحزاب: 3 ـ 6.

(6) التبيان 5: 495، أحكام القرآن 3: 625، عن ابن عباس رحمه الله.

(7) التحريم: 10.

(8) التبيان 5: 495، أحكام القرآن 3: 625.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة