كشكول الوائلي _ 175

img

المبحث الثاني: سبب نزول الآية ومعنى الإكراه فيها

وبعد هذا التوضيح نرجع للآية الكريمة فنقول: هناك عدة آراء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وفي معنى الإكراه الوارد فيها، نذكر منها:

الرأي الأوّل: أنّها في أهل الكتاب خاصة

أي في اليهود والنصارى. والمراد هنا: أنّ لهؤلاء حرية البقاء على عقائدهم ودينهم الذي يدينون به، ولهم ألاّ يجبروا على الدخول في الإسلام. ومن هذا ما كان من أمر بعض العرب وغيرهم من أنّهم يفضلون المقلات (وهي التي لا يعيش لها ولد(1) أبدا، أو التي تحمل مرة واحدة فقط(2)). يقول الشاعر:

بُغَاثُ الطَّيرِ أكثَرُهَا فِرَاخا *** واُمُّ الصَّقرِ مَقلاَتٌ نَزُورُ(3)

فالذي يريده الشاعر هنا أن الطيور العادية تبيض كثيرا؛ فتكون فراخها كثيرة لكنها لا فائدة فيها، أما الصقر فتبيض اُنثاه بيضة واحدة لكنه سيّد الفضاء(4)، ثم يشبه الاُم الولود بعادي الطيور، والمقلات باُم الصقر تمييزا لها عن غيرها، وأن ابنها مليء بالعنفوان والرجولة. وكان من عاداتهم أنّ المقلات كما مرّ تنذر أنها إن جاءها ولد فإما أن تجعله يهوديا أو نصرانيّا. وكان اليهود يقطنون المدينة كما هو معروف، وقد انعكست آراؤهم على التفسير والفقه والأخلاق. ولا زلنا إلى الآن نعاني من رواسبهم، هذه ولم نستطع التخلّص منها.

وكان الأوس والخزرج على هذه العقيدة أيضا؛ فلذا كان لهم الكثير من أولادهم عند يهود المدينة، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وآله بإجلائهم (يهود المدينة) عنها، وكان فيهم أبناء الأنصار، قال أبناوءهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم،لنذهبن معهم ولندينن بدينهم.فمنعهم أهلهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، ثم جاؤوا إليه صلى الله عليه وآله وقالوا له: يا رسول الله، أبناوءنا وإخواننا. فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وآله: « خيّروا أصحابكم؛ فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فأجلوهم »(5).

فمن يملك عقيدة سماوية ودينا إلهيا لا يشكّل أي خطر على الإسلام أو على البنية الاجتماعية لأي شعب.

الرأي الثاني: أنها في الناس عامّة

فقوله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ على هذا الرأي لا تختصّ بطائفة من الناس دون طائفة؛ حيث إن الشريعة الإسلامية كانت تدعو الناس عامّة للإسلام بالحسنى ولا تجبرهم عليه أو تكرههم على اعتناقه، بل حتى المشرك كان مشمولاً بهذه الآية الكريمة حيث إنّه يُبقى على عقيدته. واستمرّ العمل بهذا الحكم إلى أن نسخت(6) هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (7). فالتعامل السلمي والصلح مع هؤلاء كان على أساس أن يتعرفوا على محاسن الإسلام ومواطن الرحمة والحب فيه؛ ليدخلوا في الإسلام عن قناعة ورغبة، بعد أن اُتحيت لهم الفرصة لمعرفة الحقّ من الباطل، ومنحوا الوقت الكافي للتعرّف على الجوانب الأخلاقية في الإسلام. وهذا الأمر كان دافعاً كافياً لطالب الحق أن يدخل في الإسلام ويعتنقه دون إجبار أو إكراه، فإنّه إن عرض عليه الإسلام وأبى قوتل. إذن فالآية نزلت في خصوص فسح المجال أمام المشركين لدراسة محاسن الإسلام.

يتبع…

_____________________

(1) الكنز اللغوي: 91، الصحاح 1: 261 ـ قلت، وهي هنا بخصوص المرأة.

(2) الصحاح 1: 261 ـ 262 ـ قَلَت، وهي هنا بخصوص النياق.

(3) اختلف في قائله. شرح نهج البلاغة 6: 155، 13: 22، تاريخ مدينة دمشق 41: 149، 50: 84، 85.

(4) يقول الشاعر:

وفي الزرازير جبن وهي طائرة *** وفي البزاة شموخ وهي تحتضرُ

(5) مجمع البيان 2: 163 – 162، أسباب نزول الآيات: 52 ـ 53.

(6) تفسير ابن أبي حاتم 2: 494 – 495 / 2616، نواسخ القرآن: 94، فتح القدير 1: 275.

(7) التوبة: 73.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة