كشكول الوائلي _ 170

img

الثاني: الارتفاع بمستوى الصحابي عن القتل الخطأ

فهذا المقطع من الآية الكريمة يريد أن يرتفع بمستوى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله عن إراقة الدم والاعتداء على الغير، ومن هذا قوله تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (1). ويتقرّر أنه لا يوجد صحابي لأحد الأنبياء عليهم السلام من يسحق كائنا ضعيفا وهو يعلم به ويشعر بوجوده؛ لأنهم (رضوان اللّه عليهم) على خلق عالٍ ولا يعتدون على مسلم وهم يشعرون، فإن عرفوه لم يقدموا على أذاه. وهكذا آية المقام؛ فهي جاءت تؤكّد هذا المعنى: وَلَوْلاَ رِجَالٌ مؤمنونَ وَنِسَاءٌ مؤمناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وهي هنا تشير إلى هذه الثلّة من المؤمنين الذين أخفوا إيمانهم وعقائدهم خوفا من أذى قريش وانتقامها، وتقول لهؤلاء: إنكم إذا دخلتم فإنهم سيذهبون ضحية تحت أقدامكم، وقد تقتلونهم وأنتم لا تشعرون بهم. فالآية الكريمة إذن في مقام إعطاء جوّ حول حرمة المسلم واحترام دمه، ثم تقول لهم: إنكم إذا دخلتم هذا البلد فعليكم أن تأخذوا بنظر الاعتبار هذه المسألة الحساسة، فلو أنّ النبي صلى الله عليه وآله سمح لكم بدخول البلد الحرام قبل تنبيهكم إليها لراح ضحية لكم هؤلاء الثلة من المؤمنين.

مفارقات تاريخية وآراء بعض مفكري أهل السنة فيها

ونحن نقول: إذا كان الأمر هكذا فما هو موقف المسلم ممّن يقدم على قتل مسلم وهو يعلم أنه مسلم؟ إنّ هناك ثغرات في تاريخنا لابدّ من تصحيحها، فبعض الحوادث التاريخية ليس لها أي تفسير موضوعي، ولا يوجد لها أي مبرّر مقنع، ومن ذلك دعوى ارتداد مالك بن نويرة رحمه الله وأصحابه أيّام الخليفة الأول، وبالتالي تعرّضهم للقتل غيلة وغدرا، وبناء خالد بزوجة مالك ليلة قتله، وبالرجوع إلى كتابات بعض المفكّرين المنصفين من السنّة نجد أنهم يقولون بخلاف ما صُوّرت عليه قضية امتناع مالك عن أداء الزكاة إلى الخليفة الأوّل، وهي شهادات تتسم بقول الحق والابتعاد عن التشنّج والتعصب ضد الآراء المحظورة، ومنها:

الاُولى: شهادة علي عبد الرزاق(2)

يقول هذا الكاتب في مؤلّفه (الإسلام واُصول الحكم): إنّ بعض الذين قاتلهم الخليفة الأوّل على أنهم منعوا الزكاة، لم يمنعوا الزكاة، وإنّما امتنعوا عن الإذعان لحكمه.

الثانية: شهادة ابن قيم الجوزية

إنّ ابن القيم هذا يعدّ داعم فكر ابن تيمية ومروّج آرائه؛ فهو أحد تلامذته، بل تلميذه الأوّل، وهو ثروة علمية ضخمة. يقول حيال هذه المسألة: إنّ جماعة مالك بن نويرة لم يكونوا رافضين للإسلام، وإنهم غير مرتدّين عنه، وكل ما في الأمر أنهم اجتهدوا فأخطؤوا؛ حيث إنهم ظنوا أنّ الزكاة مقيّدة بدعاء النبي صلى الله عليه وآله، فالآية الكريمة تقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (3)، فهؤلاء كانوا يظنون أنّ الزكاة لا تدفع إلاّ إلى النبي صلى الله عليه وآله لأنه سيدعو لهم مقابلها، أمّا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله فليس هناك من سيدعو لهم.

وهذه شهادة قيّمة نعتزّ بها من ابن القيّم، فهو يقرر أنّ هؤلاء لم يكفروا، وهذا من قبيل أن (المشروط عدم عند عدم شرطه) فالحكم (الزكاة) مشروط بـ (الدعاء) وهو الشرط، فلمّا انعدم الدعاء انعدم المشروط (الزكاة ). وبالنتيجة فهو يقرّر بأن هؤلاء تأوّلوا فأخطؤوا، وأنهم كانوا يصلّون، وكان مؤذّنهم ينادي: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه». فهل هؤلاء مشركون أو مرتدّون؟

وأكبر دليل على هذا استقبال الخليفة الثاني لجيش خالد وقوله له بعد رجوعه من فعلته تلك: يا عدوّ نفسه، قتلت امرأً مسلما ونزوت على زوجته! واللّه لأرجمّنك بأحجارك(4).

وهكذا نجد أنّ الآية الكريمة تريد أن تطهّرنا وتطهّر أيدينا عن أن تلغ بدماء المسلمين، ومشاعرنا وألسنتنا عن أن تطال أعراضهم، وألاّ يحمل مسلم على مسلم حقدا. فهي تذكّر المسلمين بأنهم سيقدمون على بلد فيه مجموعة من المسلمين، وربما حصل هجوم منهم على المشركين فتذهب هذه المجموعة ضحية تحت الأرجل دون علم منهم وقصد، وأنّ عليهم استشعار حرمة المسلمين الموجودين في مكة، فمن المستحيل دخولهم فيها وهم لا يعرفون أنّ فيها هذه المجموعة منهم. فالمنع من دخول مكة إذن كان حرصا على الدماء الإسلامية.

يتبع…

__________________

(1) النمل: 18.

(2) أحد علماء الجامع الأزهر الذي صرّح بعدم مشروعيّة الخلافة التي حصلت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في كتابه الذي سيذكره المحاضر، وذلك بقوله: إذا أنت رأيت كيف تمّت البيعة لأبي بكر واستقام له الأمر، تبيّن لك أنها كانت بيعة سياسيّة ملكيّة عليها طابع الدولة المحدثة، وأنها قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوّة والسيف. الإسلام واُصول الحكم: 183.

(3) التوبة: 103.

(4) تاريخ الطبري 2: 504، الكامل في التاريخ 2: 358 ـ 359، تاريخ الاُمم والملوك 3: 380.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة