كشكول الوائلي _ 166

img

حرمة الأشهر الحرم عند المسلمين

إذن فاللّه‏ تعالى أكّد على حرمة هذه الأشهر فلا يسفك فيها دم ولايعتدى فيها على أحد، وكان العرب يحترمونها كذلك وإن كانت هناك بعض الخروقات المعلّلة بالنسيء الذي حرّمه اللّه‏ تعالى، ولكننا مع ذلك نجد أنه قد اعتدي في أحدها على قدسيّة حامل الرسالة صلى الله عليه وآله، وعلى عائلته.

وهذا الأمر غير متوقّع في تاريخ الإسلام، فالفترة بين بعثة النبي صلى الله عليه وآله وبين واقعة الطفّ كانت قليلة، فهي بحدود ( 60 ) سنة، أي أن من أبنائها الجيل عينه الذي عايش النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فقد كان مع الإمام الحسين عليه السلام قسم من صحابة رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله، ومع هذا فقد فُعل به ما فُعل، مع أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله جاء منقذا؛ فقد كانت الجزيرة عند نقطة الصفر من الناحية الفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وهذا المقطع من خطبة الزهراء عليها السلام يوضّح حياتهم خير توضيح، تقول عليها السلام: « وكنتم على شفا حفرة من النار، أذلّة خاسئين، تقتاتون القِدّ وتشربون الطَّرْق فأنقذكم اللّه بأبي محمد صلى الله عليه وآله منها »(1). فقد كانوا يأخذون دم الذبيحة ويشربونه، ويشربون الطرق، وهو الماء الآسن الذي تبول فيه الإبل، ويزدحمون على البئر الواحدة؛ فتسفك الدماء وتسقط في البئر، فيضطرون لشرب مائه، ولمّا جاء الإسلام بدّل ذلك الخباء الممزّق الذي عبّرت عنه ميسون بقولها:

لبيتٌ تخفق الأرواحُ فيه *** أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ(2)

فالبيت تلعب الريح فيه، ولمّا جاء الإسلام استبدله بعروش كسرى وقيصر، فأوطأهم إيّاها، وجعل الأنهار تجري من بين أيديهم، وفتحوا الدنيا بأكملها، ووضعت بين أيديهم أنواع الأطعمة، ونالوا الكنوز العظيمة. هذا من الناحية المادّيّة أمّا من ناحية اُخرى فقد استطاع أن يجعل منهم عباقرة ينظر إليهم التاريخ بإعجاب. فهل جزاء ذلك كلّه الاعتداءُ على أبناء رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله بعد أن رحل عنهم؟ إننا نعرف مدى حرمة الدم في الإسلام، فكيف إذا كان دم النبي صلى الله عليه وآله نفسه؟ حينما جاؤوا بالرؤوس إلى الشام اختفى خالد بن معدان ـ وهو من الفقهاء ـ فكان يجلس في بيته ويردّد:

جاؤوا برأسك يابن بنت محمد *** متزمّلاً بدمائه تزميلا

ويهلّلون بأن قتلت وإنما *** قتلوا بك التكبير والتهليلا(3)

فهو يعجب كيف أنهم قتلوه فأراقوا به دم النبي صلى الله عليه وآله. وكان الشافعي يقول:

تأوّه قلبي والفوءادُ كئيبُ *** واُرّق نومي فالسهاد عجيبُ

ذبيح بلا جرم كأن قميصه *** صبيغ بماء الأرجوان خضيبُ

فمن مبلغ عني الحسين رسالة *** وإن كرهتها أنفس وقلوبُ (4)

فكان يندب الإمام الحسين عليه السلام ويبكيه أشدّ البكاء. وكان الحسن البصري يقول: «أذلّ اللّه‏ اُمّةً قتلت ابن بنت نبيها» (5).

فهؤلاء كان عندهم ضمير يقدّر الواقعة، في حين أن البعض يقول: إن الحسين خرج على إمامه وقتل، بل أكثر من هذا نجد أن ابن العربي يقول: «إن الحسين قتل بسيف جدّه؛ حيث إن جدّه صلى الله عليه وآله حمل القرآن، والقران يقول: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي (6)… »(7). وهذا كلام غريب؛ فهل إن الإمام الحسين عليه السلام باغٍ؟ إنه الحسين الذي عبّر عنه رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله بأنه « سيّد شباب أهل الجنّة »(8).

ثم إنه صلى الله عليه وآله ألم يكن يعرف أنه سيقاتل حينما قال فيه ما قال؟ فهل يريد هذا المعترض أن يصحّح لرسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله رأيه؟ إن هذا الأمر من الثغرات العجيبة في تاريخنا، ولابدّ من ملئها، ومن عودة المسلمين جميعا لاُسس الإسلام.

وكما قلنا فإن من المفارقات الغريبة في تاريخنا أن هذا الشهر الحرام تنتهك حرمته، وبمن؟ بدماء أبناء رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله (9)؛ ولذلك فإن شهر المحرم إذا مرّ أخذ من قلوب أهل البيت عليهم السلام، كان الإمام الباقر عليه السلام يدخل عليه الشعراء والخطباء فيردّدون واقعة الطف بقصيدة أو كلمة، وكان الإمام الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام كذلك، وحذا شيعتهم حذوهم في هذا، وكانوا عليهم السلام يؤكّدون على هذا، ويأمرون به: «أحيوا أمرنا؛ رحم اللّه‏ من أحيا أمرنا»(10). فما هو الهدف من ذلك؟ ولماذا يصرّ الإمام الصادق عليه السلام على أن يستعيد واقعة الطفّ؟ إن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن دمعة فقط، وإنما كان سيفا، ولا يصحّ أن يُحوّل السيف إلى دمعة؟ يقول الأديب:

أبا الثورة الكبرى صليلُ سيوفها *** نشيدٌ بأبعاد الخلود مُرجَّعُ

تُشير وإيماضُ القواضب مشعلٌ *** وتحدو بركب الثائرين فيتبعُ

أبا الطف ما جئنا لنبني بلفظنا *** لمعناك صَرحا إن معناك أرفعُ

متى بنت الألفاظُ صرحا وإنما الـ *** ـصروح بمقدود الجماجم تُرفعُ

ألا إن بُردا من جراحٍ لبسته *** بنى لك مجدا من جراحك يُصنعُ

وضعناك في الأعناق حِرزا وإنما *** خُلقت لكي تُنضى حساما فتُشرعُ

وصُغناك من دمعٍ وتلك نفوسنا *** نصوِّرها لا أنت إنّك أرفعُ(11)

إن الإمام عليه السلام ليس بحاجة لأن تحشد كلّ تلك الناس لأجل دمعة، فالدمع إفراز طبيعي عند تأجّج العاطفة، كما أن «أحيوا أمرنا » لا يكون بالبكاء، لقد كان الإمام يودّ أن يجعل من الحسين عليه السلام اُنشودة ومثلاً؛ لأنه رفع مبادئ الإسلام، ووقف يصارع مبادئ الجاهليّة، ليُخرج المسلم من قوقعته وليقف ثائرا بوجه الظلم، وليرفع كلمة « لا إله إلاّ الله »، ومن أجل حرّيّته. فوقعة الحرّة بيّنت الموقف الحقيقي والشائن للاُمويين من المسلمين، حيث فرضوا عليهم أن يبايعوا كعبيد أقنان ليزيد(12)، أي أن يزيد يتحكّم بدمائهم وأموالهم وأعراضهم. وهذا ما لا يرتضيه الإسلام للإنسان، فهو مكرّم عنده وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (13).

كان عمر بن عبد العزيز يأخذ الأموال من بني اُميّة ويرجعها الى الناس، فتقول له عمّته: ألا تخشى منهم؟ قال لها: «كل يوم دون يوم القيامة لا أخشاه » (14). فهؤلاء نهبوا أموال المسلمين وساُرجعها إلى أهلها.

فالأموال سرقت، والأعراض والدماء انتهكت، فقد قتل بسر بن أرطاة ( 30 ) ألفا في يوم واحد، كما ذكرنا أول المحاضرة، حتى قام عقيبة الأسدي وقال:

معاويَ إننا بشرٌ فأسجِحْ *** فلسنا بالجبالِ ولا الحديدِ

أكلتم أرضَنا فجردتموها *** فهل من قائمٍ أو من حصيدِ

ذروا جورَ الإمارةِ واستقيموا *** وتأميرا على الناس العبيدِ

فهبنا اُمّةً ذهبت ضياعا *** يزيدُ أميرُها وأبو يزيدِ

أتطمعُ في الخلافةِ إذ هلكنا *** وليس لنا ولا لك من خلودِ

وأعطونا السويّةَ لا تزرْكم *** جنودٌ مردفاتٌ بالجنودِ(15)

فالإمام الحسين عليه السلام خرج ليقارع الظلم، وليصارع قيم الجاهلية؛ فهو أكبر من أن يعامل بالدموع، لكن يبقى الدمع يفرز عندما تمرّ الواقعة شئنا أم أبينا، فنحن حينما ندرس الواقعة وننتهي إلى نتيجة هي أن واقعة الطفّ جعلت بيوت النبي صلى الله عليه وآله خالية، فإن الإنسان حينئذٍ لا يمكن أن يتمالك دمعه دون أن يتركه يسيل من عينيه، ورحم الله سليمان بن قتّة إذ مرّ بديار الحسين عليه السلام ورآها خالية فأنشد:

مررت على أبياتِ آلِ محمدٍ *** فلم أرَها أمثالَها يومَ حلّتِ

ألم ترَ أن الشمسَ أضحت مريضةً *** لفقدِ حسينٍ والبلادَ اقشعرّتِ

وكانوا رجاء ثم صاروا رزيةً *** لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ

وإن قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشمٍ *** أذلّ رقابَ المسلمين فذلّتِ(16)

يتبع…

__________________

(1) شرح الأخبار 3: 35.

(2) تاريخ مدينة دمشق 70: 133 ـ 134.

(3) مناقب آل أبي طالب 3: 263 تهذيب الكمال 6: 448.

(4) مناقب آل أبي طالب 3: 269، بحار الأنوار 45: 253 / 12، 273 – 274، معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول عليهم السلام ( الزرندي الشافعي ): 101، ينابيع المودّة 3: 48 – 49. انظر محاضرة ( السبط المخلّد عليه السلام ) ج 8 من موسوعة محاضرات الوائلي.

(5) ينابيع المودَّة 2: 398.

(6) الحجرات: 9.

(7) فيض القدير شرح الجامع الصغير 1: 265 ـ 266، 5: 313.

(8) انظر: فضائل الصحابة (أحمد بن حنبل): 20، 58، 76، مسند أحمد 3: 3، 62، 64، 82، 5: 391، 392، سنن ابن ماجة 1: 44، الجامع الصحيح (سنن الترمذي) 5: 321، 326، المستدرك على الصحيحين 3: 167، 167، 167، 381، شرح النووي على صحيح مسلم 16: 41، وغيرها كثير.

(9) قال الشاعر:

قتلوا الحرامَ من الأيمّـ *** ـة في الحرامِ من الشهورِ

مثير الأحزان: 61.

(10) الخصال: 22 / 77، الأمالي ( الطوسي ): 135 / 218.

(11) ديوان المحاضر 1: 32.

(12) تاريخ مدينة دمشق 54: 181 ـ 182.

(13) الإسراء: 70.

(14) انظر الطبقات الكبرى 5: 398.

(15) تاريخ مدينة دمشق 26: 47.

(16) اُسد الغابة 2: 21، تهذيب الكمال 6: 447، سير أعلام النبلاء 3: 318.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة