كشكول الوائلي _ 164

img

هل ترفع الحدود في الدنيا عذاب الآخرة؟

إن هناك خلافا بين الفقهاء حول من يُقتصّ منه في الدنيا؛ هل إنه يعاقب على جريمته في الآخرة، أم لا؟ وللإجابة على هذا السؤال لابدّ من معرفة أن هناك حقوقا خاصّة وحقوقا عامّة، فالسارق حينما يردّ المبلغ الذي سرقه يسقط الحقّ الخاصّ، لكن هذا لا يعني أن الأمر قد انتهى عند هذا الحدّ؛ إذ أنه يتبقّى في ذمّته الحقّ العامّ، وهو حقّ الهيئة الإنسانية. فالسارق عمل على الاستهانة بحقوق الآخرين والاعتداء على الناس وعلى حقّهم العام، وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بحقّ اللّه‏ عزّ وجلّ. فالذي يعتدي على حقّ غيره، ويردّه إليه في الدنيا يجب أن يعلم أن وراءه رقابة إلهيّة وملاحقة يتبنّاها اللّه‏ عزّ وجل.

إن الإنسان ضخم بعقله، فلا يستهِن بحقوق الناس، وعلى قدر عقله يكون تكليفه وحسابه، فـ: لاَ يُكَلِّفُ اللّه‏ُ نَفْسَا إِلاَّ وُسْعَهَا (1)، فالجاهل غير العالم، أي أن العالم الذي يعتدي على غيره يكون عقابه مضاعفا (2)؛ ولذا فقد ورد في الأثر أن «ذنب العالِم كالعالَم» (3)؛ لأن المفترض بالعالم أنه هو الذي يهذّب الجاهل ويعلّمه. ولكننا الآن لا نجد من هذا شيئا؛ ذلك أن هناك علماء ذوي ثقافة وإدراك لكنهم أسرع من غيرهم إلى ارتكاب الجريمة.

إذا لم يزد علمُ الفتى قلبَه *** وسيرتُه عدلاً وأخلاقُه حسنا

فبشّره أن اللّه‏ أولاه فتنة *** تغشّيه حرمانا وتوسعه حزنا (4)

وهذا مايعبّر عنه القرآن الكريم بقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (5). فمثل هذا سواء كان عنده علم أو لم يكن عنده علم، فهو على حدّ سواء؛ لأنه لم يستفد من علمه، مع أن المفروض أن يأخذ العلم أثره من السلوك في العمل، وأن يأخذ بيده إلى الصواب.

العفو عند المقدرة والمثليّة في القصاص

ثم قالت الآية الكريمة: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، هناك قاعدة اُصولية تقول: «إن المورد لايخصّص الوارد» (6)، أي أنه إذا اُنزلت آية في موضوع خاصّ فإنها لا يقصر حكمها على ذلك الموضوع، بل لنا أن نعدّيَه إلى كلّ ما يتوفّر فيه وحدة الملاك، فمثلا قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (7)، نزل بسبب سارق بعينه، لكن ليس معناه أن هذا السارق فقط تقطع يده، بل إن كلّ من يسرق تقطع يده، فالآية الكريمة حكمها عام. وكذا آية المقام: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فإن فيها عموما، فليس الاعتداء في الشهر الحرام فقط هو المسوّغ للردّ عليه، بل إنها شاملة لكلّ اعتداء حتى لو كان في غير الشهر الحرام.

وربما يقول قائل: ألا يتناقض هذا مع قوله تعالى: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (8)؟

ويجاب بأن هذا لا ينفي حقّ المعتدى عليه في الردّ، فهو يملك حق ردّ الاعتداء لكن لا يجب عليه تنفيذه، أي أنه يجوز له أن يترك هذا الحقّ، ويجوز له أن يردّ الاعتداء. فترك الاعتداء من حسن الخلق لكن ينبغي ألاّ يتحوّل إلى حالة من الضعف، كما أنه أمر يتبع المزاج، فهناك من يطغى عليه مزاج الردّ:

ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا *** فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا(9)

في حين أننا نجد مقابله مزاجا يذوب رقّة ورحمة، فيقول صاحبه:

إني شكرت لظالمي ظلمي *** وغفرت ذاك له على علمي

ورأيته أسدى إليَ يداً *** لما أبان بجهله حلمي

رجعت إساءته إليه وإحـ *** ـسـاني فعاد مضاعف الجرمِ

ورجعت ذا أجرٍ ومحمدةٍ *** وغدا بكسب الوزر والإثمِ

مازال يظلمني فأرحمه *** حتى بكيت له من الظلمِ(10)

إذن فالأمر في الآية الكريمة: فَاعْتَدُوا عَلَيْه هو للإباحة لا للوجوب، أي أن المعتدى عليه يملك الحقّ في ردّ الاعتداء، فهو بالخَيار إن شاء اقتصّ وإن شاء عفا وقابل بالإحسان.

يتبع…

______________________

(1) البقرة: 286.

(2) انظر شرح اُصول الكافي ( المازندراني ) 2: 165 ـ 166.

(3) وقال الصادق عليه السلام : « يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ». الكافي 1: 47 / 1: وأرسله في فيض القدير شرح الجامع الصغير 6: 480 / 9657 عن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله.

(4) شرح رسالة الحقوق: 509.

(5) الأعراف: 176.

(6) جواهر الكلام 1: 215، حقائق الاُصول 2: 412.

(7) المائدة: 38.

(8) فصلت: 34.

(9) البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته. آمالي السيد المرتضى 1: 42، 2: 8، شرح نهج البلاغة 16: 101، 19: 221، الجامع لأحكام القرآن 1: 207، 2: 356.

(10) الأبيات لمحمود الورّاق. شرح نهج البلاغة 18: 378.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة