كشكول الوائلي _ 162

img

النقطة الثالثة: الحرية الفكرية

إن هذا المقطع الشريف يدلّ على تحرير البشر من المؤسسات التي تتحكّم في تفكيره؛ لأن السماء هي التي تحدد لنا الطيّب والخبيث بمساعدة عقولنا. فاللّه تعالى خلق لنا هذه العقول ومنحنا القدرة على التفكير، ووضع لنا القواعد التي نستطيع عبرها أن نعرف الصحيح من غيره. فهذه الضوابط هي من وضع السماء، وليست من هؤلاء الذين يطرحون رأيهم بلا دليل كالأحبار والرهبان، فهؤلاء مثلاً كانت أغلب آرائهم مناطها التحكّم(1)، كما في مسائل الزواج والطلاق، حيث أباحوا زواج المحارم كالمجوس، فإن المجوسي يباح له أن يتزوّج بنت اُخته وبنت أخيه. وهذا بخلاف الإسلام الذي يأمر بالزواج من الأباعد؛ لأن هذا الفعل سيؤدّي إلى أن يغرس المحبّة بين عائلتي الزوجين، فحينما يضمّ الزوج اُسرة جديدة إلى اُسرته، فإنه يكون قد نشر المحبّة بينهما، وهذا من جملة أهداف الزواج. فبهذا الزواج تقترب هذه القبيلة من تلك القبيلة، وتتبادل المحبّة والولاء بينهما، ويُتخلّص من البلايا التي تحدث عند الزواج من الأقارب.

فهؤلاء الأحبار والرهبان يتحكّمون بالزواج كما يتحكّمون بالطلاق، حيث يمنعونه ولا يبيحونه. وليس هذا مقتصرا على هؤلاء، فبعض المذاهب الإسلامية لها اُمور عجيبة في الطلاق، فمثلاً إذا قال الرجل لزوجته: أنت بتّة فقد طلقت(2)، أما عندنا فلا يقع الطلاق إلاّ بلفظ الطلاق. كما أنهم يجيزون طلاق السكران(3) الذي يفقد عقله، فتنهدم الاُسرة بقول السكران. وقد اُلغيت الطلقات الثلاث في جمهورية مصر مؤخّرا، واعتبرت واحدة، ذلك أن عندهم لو طلّق الزوج زوجته بالثلاث أصبح طلاقا بائنا، وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره.

فالأحبار والرهبان كانوا يتحكّمون بالطلاق والزواج، ونحن نشاهد مقدار المفاسد التي تترتّب على بعض الزيجات، فربما لاتنسجم حياة الرجل مع المرأة، فلابد من الطلاق حينها، صحيح أنه أبغض الحلال عند اللّه‏(4)، لكن إذا تعذّرت الحياة فلابدّ منه.

إذن فبيان الحلال والحرام من اختصاص السماء وليس من اختصاصنا نحن، فالعرب مثلاً كانوا يتحكّمون بالسوائب والفواصل، فالبعير إذا خرج من ظهره عشرة اعتبروه سائبة فلا يأكلونه، ويقولون: إنه حامٍ، أي حمى ظهره، وكذلك الحال مع البحيرة التي هي ناقة تلد خمسة بطون، فيبحرون اُذنها، ويرسلونها فلا يستفيدون من لحمها. فهؤلاء كانوا يتحكّمون بهذا، فجاء الدين وقال لهم: إن اللّه‏ هو الذي يبيّن لكم الحلال والحرام، فشأنه ليس لكم ولا بأيديكم: قُلْ أَ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ(5).

إن بعض المذاهب الإسلامية تذهب إلى أنه لايوجد حكم ثابت عند اللّه‏، وإنما الحكم ماحكم به المفتي، ونحن نقول: إن اللّه‏ له حكم في كل واقعة، والفقيه أو المفتي إنما يبحث عن الحكم، فإنّ أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. فالآية الكريمة إذ تقول: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ، فهي إنما تقرّر أن السلطة بيد اللّه‏، ولو أنها اُعطيت للإنسان فإنه سيتحكّم بغيره من أبناء جلدته، صعد الحجاج على المنبر وقال: اسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلّت لي دماوءهم وأموالهم. والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً(6).

وهذا لون عجيب من التحكّم بعباد اللّه‏، وهذا وأمثاله(7) هو الذي دفع بالحسين عليه السلام إلى أن يقف بوجه هذا التيار الجاهلي الذي حاول أن يظهر مرّة اُخرى على الساحة الإسلامية، ويقف بوجه رسالة السماء، فاستحلّ أصحابه به المحارم، فرأى الحسين عليه السلام أنه لابدّ من جولة للوقوف بوجه الطغيان الذي تحكّم بعباد اللّه‏.

يتبع…

_____________________

(1) التحكّم: هو كل دعوى بلا دليل يعضدها.

(2) الاُم 5: 124، الشرح الكبير 2: 402، المبسوط (السرخسي) 6: 79.

(3) مختصر المزني: 194، عن الشافعي، روضة الطالبين 6: 23، فتح الوهاب 2: 124.

(4) سنن ابن ماجة 1: 650 / 2018، سنن أبي داود 1: 484 / 2178.

(5) يونس: 59.

(6) سنن أبي داود 2: 400 / 4643، تاريخ مدينة دمشق 12: 159، البداية والنهاية 9: 148 ـ 149.

(7) كفعل مسرف بن عقبة حينما أخذ البيعة ليزيدمن أهل المدينة بعد وقعة الحرّة، حيث إنه كان يقول للمبايع: تبايع على أنك عبد قِنّ ليزيد. تاريخ مدينة دمشق 54: 181 ـ 182.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة