كشكول الوائلي _ 161

img

الحسن والقبح الذاتيين

إن قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ يقرّر أن هناك حسنا وقبحا ذاتيين للأشياء. وهذه المسألة موضع نزاع بين المذاهب الإسلامية، فمتى نسمي هذا الشيء حسَنا ومتى نسميه قبيحا؟ المذاهب الإسلامية تقول: إن القبيح ما قبّحه اللّه‏، والحسن ما حسّنه اللّه‏؛ فإنه يجوز للّه‏ أن يعذّب المطيع، ويرفع العاصي ويدخله الجنّة، فالذي يقضي عمره بالصلاة والصوم والعبادة لا ضير في أن يضعه اللّه‏ في النار، والذي يقضي عمره بالفجور والرذائل لا ضير في أن يضعه اللّه‏ في الجنة. فهو تعالى يفعل ما يشاء.

وهذا الكلام غير مقبول، لأن هذا ظلم، والظلم قبيح، واللّه‏ تعالى لايقدم على القبيح، وبالتالي لا يقدم على الظلم. فإذا نعّم العاصي فإنه فرّق بين المقاييس، واللّه‏ تعبّدنا بالعقول والمقاييس. ولذا فإن ابن قيم الجوزية (وهو تلميذ ابن تيمية) يذهب إلى الحسن والقبح العقليين، أي أنه لا يذهب إلى أن الحسن والقبح هما ما حسّنه وقبّحه الشرع. فالشرع يرشد إلى الحسن والقبح العقليين، وهذا الذي عليه الشيعة. سألوا أعرابيا: بماذا بعث الرسول صلى الله عليه وآله؟ قال: إنه لم يجئ بشيء وقال عنه العقل: إنه قبيح، ولم ينهَ عن شيء وقال عنه العقل: إنه حسن؛ فهذا دليل على أنه على حقّ. فهذا الأعرابي أفضل من هؤلاء الذين يقولون: إن الحسَن ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع، ومن يقل بأن اللّه‏ يمكن أن يأتي بشريعة ثم يأتي بضدّها فليراجع متبنياته العقلية والفكرية.

فهذا المقطع من الآية نستدل منه على أن الأشياء لها صفة ذاتية، أما الأشياء المادّية أو بعض الأعمال فنحن نعرف أن بعضا منها قبيح، كالسرقة والخيانة قبل أن يقول الشارع لنا ذلك، وكذلك الإحسان إلى الناس فهو أمر حسن قبل أن يقول لنا الشارع بأنه أمر حسن. والشرع إنما يرشد لهذا؛ فإنّ العقل نبي داخلي والشرع نبي خارجي.

ومن لم يكن لديه عقل فإن اللّه‏ لايكلّفه، فالأبله لايكلّف، ذلك أن العقل مناط التكليف وملاكه، أي أن له القابلية على تمييز الأشياء، ومعرفة القبح والحسن، وأن اللّه‏ تعبّدنا بهذا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1)، و: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (2)، أي ذي عقل، و: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (1).

فاللّه‏ يأمرنا أن نحكّم عقولنا ونفكّر، ولو لم يكن العقل حجّة ما أحالنا إليه، ومن هذا نعرف أن اللّه‏ تعالى تعبّدنا بالعقول، والإنسان إذا جُرّد من العقل فإنّ الحيوان يصبح أفضل منه، وإذا اُلغي العقل اُلغي التكليف، واللّه‏ لايأمرنا بما يخالف العقول، فإنّ اللّه‏ عُبد وعُرف بالعقل.

سأل النبي صلى الله عليه وآله عجوزا: كيف عرفت ربك؟ قالت: إن عندي دولابا ألفّ عليه المغزل، يشتغل بحركة يدي، ويتوقّف إذا لم اُحرّكه، وأنا أرى الشمس تطلع وتغرب، والأرض تمرّ بأحوال مختلفة حيث الليل والنهار، والمراسم كلاًّ في وقته، فعلمت أنه لابدّ من وجود أحد يديره، فإذا كان هذا الدولاب لايتحرّك إلاّ إذا حرّكته فكيف بهذا الكون؟ فهذا تحكيم للعقل، فالأشياء لها حسن وقبح عقليان.

يتبع…

_________________

(1) الرعد: 4، النحل: 12، الروم: 24.

(2) الفجر: 5.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة