كشكول الوائلي _ 156

img

النقطة الثانية: الجوانب غير العاطفية

وهذه الجوانب كثيرة يمكن أن نذكر منها:

أوّلاً: معادلة الخير والشر

ففي مثل هذه الليلة تتّضح لنا معالم معادلة حساسة جدا، ويعتمد هذا الأمر على معرفة طرفي المعادلة:

الطرف الأوّل: خطّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله

ففي الطرف الأوّل من المعادلة أبو الأحرار وسيّد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الحسين بن رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله، وابن أوّل الناس إسلاما وإيمانا بدعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وابن علي بن أبي طالب عليه السلام . وهو عصارة مبادئ الإسلام، وكان رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله يحمله على صدره ويقول: «حسينٌ منّي وأنا من حُسين»(1).

ويقول: «أحبّ اللّه‏ من أحبّ حسينا، وأبغض اللّه‏ من أبغض حسينا»(2). مرّ أبو بكر بالرسول صلى الله عليه وآله فرآه يحمل الحسنين عليهما السلام على عاتقيه، فقال: نِعمَ الجمل جملكما. فقال النبي صلى الله عليه وآله: «ونعم الراكبان هما، وأبوهما خير منهما»(3). فأخذهما أبو بكر من حجر النبي صلى الله عليه وآله.

الطرف الثاني: الخطّ الجاهلي المعتم

أما في هذا الطرف فتتضح معالم الجاهلية المقيتة وخلاصتها، وطرف الأحقاد الاُموية والانحراف عن خطّ الإسلام الحنيف. وهذا الطرف تجسّد في شخص كان يصعد المنبر وهو يترنح تحت وطأة سكره، وينشد:

أقول لصحب ضمّت الكأس شملهم *** وداعي صبابات الهوى يترنّمُ

خذوا بنصيب من نعيم ولذّة *** فكلٌ وإن طال المدى يتصرّمُ(4)

إذن في المعادلة رافد من راوافد الإسلام ورافد من روافد الجاهلية، وهذا هو سبب الصراع؛ فالإسلام على خطّ موازٍ للجاهلية ولا يمكن أن يتقاطعا أو يلتقيا أبدا. فهنا نحن ننظر إلى رمز بارز من رموز الإسلام وإلى رمز آخر بارز لكن من رموز الجاهلية، وبهذا يتقرّر أن دعوى كون يزيد يشكل حلقة من حلقات الحكم الإسلامي هي دعوى باطلة وفارغة من أي مضمون؛ فالنظرية الإسلامية لا تقوم على أساس تقديم الدم واللحم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(5).

فالمسألة هي مسألة فكر، والمسلم هويته الإسلام، فيجب على الآخرين ألاّ يدخلوا عوامل أجنبية ويقولوا: أنتم ضد العرب، وأنتم شعوبيون، فنحن عرب ونعتزّ بعروبتنا وبتاريخنا الإسلامي، وبمن حمل الإيمان والدين من العرب. كما أننا لا نتخلّى عن دورنا في الحفاظ على اللغة العربية في عبادتنا، وهو ما ليس موجودا عند غيرنا؛ فعند غيرنا أنّ الصلاة تجوز بغير العربية والعقود كذلك، وكذلك عندهم أن الخليفة لا بأس بأن يكون غير عربي في حين أننا لا نقول بذلك، بل نشترط كونه عربيا.

فكل ما يثار في هذه المجال لا يعدو كونه لعبة عاطفيّة، فهويتنا «لا إله إلاّ اللّه‏ محمد رسول اللّه‏»، ونحترم الشعوب الاُخرى والقوميات كافّة، لكن لا نقدّس أحدا لا يستحقّ التقديس لمجرد أنّه قد حكم، فالحكم وجوده وعدمه سواء فيما يخصّ قدسية الرجل واستحقاقه للطاعة والحب والتقدير والإكرام، يقول أحد الشعراء مخاطبا أمير المؤمنين عليه السلام:

هو عدل السماء أعطتك عرشا *** لا يدانيه عرشك المغصوب

فعرشه عليه السلام الذي وهبته إياه السماء هو قلوب المؤمنين، فما قيمة كرسي مصنوع من خشب حينئذٍ؟

ثانيا: أهل بدر والأحزاب

وهنا يتّضح لنا كذلك من هم الذين كانوا مع الحسين عليه السلام، ومن هم الذين كانوا مع يزيد في معادلة الخير والشر ممّن وقفوا إلى جانب الرمز. وبه يتّضح لنا هذا البعد الهام من أبعاد هذه المعادلة التي يمكن‏رسمها بالشكل التالي:

الطرف الأوّل: صحابة الرسول صلى الله عليه وآله

فممّن وقف إلى جانب الإمام الحسين عليه السلام في هذه المعادلة بعض من صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وكان في طليعة هؤلاء حبيب بن مظاهر الأسدي. وكان لهؤلاء سابقة وقدِم في الإسلام والجهاد ونصرة اللّه‏ تعالى ورسوله الكريم ودينه الحنيف.

الطرف الثاني: أصحاب الخندق

إن في جيش يزيد بقية باقية من معسكر الأحزاب، وقد صوّر لنا هذا الأمر بأروع صورة عقيل بن أبي طالب حينما راح يصف جيش أخيه أمير المؤمنين عليه السلام وجيش معاوية لهذا الأخير إذ طلب منه ذلك وقال له: قد مررت بجيش أخي علي بن أبي طالب عليه السلام فما رأيت فيهم إلاّ قائما وقاعدا، وراكعا وساجدا كأنه جيش رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله ولكن الرسول صلى الله عليه وآله ليس فيهم، ومررت بجيشك فما رأيت إلاّ قوما ممن نفّر ناقة رسول اللّه‏ ليلة العقبة حيث يوجد الطليق وغيره(6).

يقول أحد الشعراء مخاطبا الحسين عليه السلام:

يا أبَا الطفّ ساحة الطفّ تبقى *** وعليها مَشاهدٌ لا تزولُ

فهنا والنبيّ يرقب شلوا *** مزَّقته قنا وداست خيولُ

يزدهيه بأنه وحسين *** قصّة الأمس والغد الموصولُ

وبأن الروح الذي حمل السبـ *** ـط تراث من النبي أصيلُ

وهنا حشد آل حرب وللخسّـ *** ـة في كلِّ ما به تذليلُ

وهنا حشد هاشم وهو جذر *** ينتمي للشذا وطبع نبيلُ

وستبقَى الدنيا وللوضر النتـ *** ـن قبيل وللسموِّ قبيلُ(7)

فهناك مجموعة خيّرة فيهم بقية من الصحابة التفّت حول رمز الإسلام، فكانوا حماة الإسلام، عاشوا على المبدأ وماتوا دونه وهم يتمنّون لو أنهم نشروا ثم قتلوا ثم نشروا ثم قتلوا يفعل بهم ذلك ألف مرّة لما تركوا رمز الإسلام، فكيف وهي ميتة واحدة؟ هؤلاء المضحون هم الذين جمعهم هذا الرمز الإمام وخطب فيهم قائلاً: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً… الطريق غير خطير، والليل ستير، والوقت غير هجير، وأنتم في حلّ من بيعتي. إن القوم يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب سواي»(8).

فكان جوابهم ما جاء على لسان مسلم بن عوسجة رحمه الله حيث قال مخاطبا الإمام أبا عبد اللّه‏ عليه السلام : أنخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقّك؟ أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله. والله لو علمت أني اُقتل ثم أحيا ثم اُحرق ثم أحيا ثم اُذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا؟

وعلى لسان زهير بن القين رحمه الله حيث قال: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اُقتل هكذا ألف مرّة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هوءلاء الفتيان من أهل بيتك.

وعلى لسان محمد بن بشير الحضرمي رحمه الله إذ قال له: اُسـر ابني بثغر الري فما اُحبُّ أن أبقى بعده حيّـا. فقال له الحسين عليه السلام : «أنت في حـلّ من بيعتي». ثم أخرج له من الخيمة خمسة ثياب، وقال له: « اعمل على فكاك ابنك ». فقال له: أكلتني السّباع حيّا إن فارقتك يابن رسول اللّه‏(9).

أما الطرف الآخر فمجموعة من الأشرار المرتزقة ممّن اشتروا دنياهم بدينهم، يقول أحدهم:

املأ ركابي فضّة أو ذهبا *** إنّي قتلت السيّد المهذّبا

قتـلت خيـر النـاس اُمــا وأبــا(10)

وهذا هو الفرق بين هذين الطرفين اللذين يمثلان معسكري الحقّ والباطل.. بين معسكرين يحمل أحدهما روح الإيمان والتضحية في سبيل الدين ومعسكر يعشّش الحقد في قلبه، ويتراءى الطمع له أمام عينيه.

يتبع…

_________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 177، المصنف (ابن أبي شيبة) 7: 515.

(2) مسند أحمد 4: 172، سنن ابن ماجة 1: 51، سنن الترمذي 5: 324، وغيرها كثير.

(3) سنن ابن ماجة 1: 44 / 118، المعجم الكبير 3: 39 / 2617، 65 / 2677، 19: 292، وليس فيها إشارة إلى أبي بكر.

(4) جواهر المطالب (الدمشقي) 2: 301. والقائل:

اسقني شربة تروِّي فؤادي *** ثمّ قم واسقِ مثلها ابن زيادِ

موضع العدل والأمانة مني *** ولتنفيذ مغرمي ومرادي

 تاريخ مدينة دمشق 22: 143 ـ 144، النصائح الكافية: 79.

(5) الحجرات: 13.

(6) شرح نهج البلاغة: 184 ـ 185، بحار الأنوار 42: 113.

(7) ديوان المحاضر 1: 40.

(8) انظر: الدمعة الساكبة 4: 272، مقتل الإمام الحسين عليه السلام (المقرّم): 262 ـ 265.

(9) الإرشاد 2: 92، روضة الواعظين: 183، الخرائج والجرائح 1: 254، تاريخ الطبري 4: 318، البداية والنهاية 8: 191.

(10) الأمالي (الصدوق): 227، الاستيعاب 1: 393.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة