زينب العقيلة÷

img

خطبة الجمعة

مسجد الإمام الرضا×

مصطفى آل مرهون

19/7/1439هـ

الحمد لله رب العالمين، ديان يوم الدين، خالق الخلائق أجمعين. وبه أستعين، وأصلّي وأسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين:

 هل بالضـريح عقيلة تتوسد *** أم صارم تحت الردى يتمردُ
جلّى بزينب رمله والأرض كم *** تشقى بمن حَلُّو بها أو تُسعدُ
خُلقٌ به فيما تألق حيدر *** وشمائلٌ يبدو بهن محمدُ
جمعتهما الزهراءُ فيكِ فأنتِ ما *** بين النبوة والإمامة معبدُ
ولقد رأيتكِ والمصائب والأسى *** هممٌ وحقدُ الظالمين يعربدُ
تتوكفين حصافة وصلابة *** وتُحذرين بيومٍ ما يأتي الغدُ

 أعطى الإسلام المرأة دوراً هاماً، له قيمته ورسالته، وله وظيفته التي تعد من أخطر وظائف المجتمع. ومذ بزغ نور الإسلام كان جلياً دور نساء رائدات، فكان هناك الخنساء، وخولة بنت الأزور، ونسيبةُ بنتُ كعب المازنية التي كانت تطبب الجرحى في الحروب، وكان هناك العالمات والعارفات والمثقفات كما كان هناك دور للمجاهدات اللائي في طليعتهن سمية أم عمار بن ياسر، التي تعرضت لأشد أنواع التعذيب من أجل سلب عقيدتها، فقاومت ولم تتخلَّ عن دينها ومبادئها، فطعنها أبوجهل بحربة، فكان الرسول| يقول: «أبشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة»([1]).

وكان هناك أسماء بنت عميس في هجرتها إلى الحبشة، ووقوفها إلى جانب زوجها جعفر (رضي الله عنه)، إلى غير ذلك من مواقف المؤمنات الصالحات اللواتي خلدهن تاريخ الإسلام.

نساء بيت النبوة

ولقد كان للمرأة المحمدية قصب السبق في تاريخ الإسلام، ومساهمة كبيرة في اشتداد شوكته، فلقد فُقن غيرهن في كل زمان ومكان في أداء الوظيفة الدينية، والمسؤولية الاجتماعية، ومن هؤلاء نذكر أنموذجين مشرقين:

أولاً: خديجة الكبرى

وهي المرأة التي تحملت الأعباء الثقيلة في بداية الدعوة، فبذلت كل ما تملك من أموال في سبيل الله. وكانت أموالها لا تعد ولا تحصى، وكان مجتمع قريش بأجمعه يتاجر بأموالها، فساقت كل ذلك إلى بيت النبي| لينفقه في سبيل الله وتبليغ الرسالة. وكانت أول من استقبل رسول الله| في بداية نزول الوحي ووقفت معه، وكانت تقف خلف رسول الله وعلي في الصلاة وليس على ظهر الأرض على هذا الدين إلّا هؤلاء الثلاثة، حيث كان إيمانها في أول يوم وهو يوم المبعث. وهكذا كان موقف الزهراء÷ في نصرة علي بعد رسول الله|.

ثانياً: زينب العقيلة

لقد وقفت العقيلة زينب مع أخيها الحسين× قبل كربلاء وبعد ذلك مواقف البطولة الهاشمية، وقدمت ولديها يحيى وعوناً وإخوتها وأبناء عمومتها شهداء في سبيل الله. وكانت تمشي بين جثث القتلى المتناثرة والدماء السائلة حتى تقف على جسد أبي عبد الله× وترمق السماء بطرفها وتقول: «اللهم تقبل منا هذا القتيل قرباناً لوجهك»([2])، بصلابة لم يشهد التأريخ لها مثيلاً في شجاعتها العلوية، وبطولتها الهاشمية.

وكانت تجمع العيال والأطفال، وتحمي العائلة في غياب الكفيل، وتمر عليها ليلة الحادية عشرة بالحزن والأسى، والألم واللوعة، صابرة محتسبة، مصلية في ليلها، صلبة في موقفها:

وسجى الليل والرجال ضحايا *** والنساء المخدرات ذهولُ
واليتامى تشـرد وضياع ***  والثكالى مدامع وعويلُ
وزنـودٌ قـسـت عليها سياطٌ ***  وجسومٌ يضـرى بها التنكيلُ
ودم شاطئ الفرات سيبقى الـ ***  ـدهرُ يرويه و الرُّبا و النخيلُ

وحينما نادى المنادي في الليلة الحادية عشرة: أحرقوا خيام الظالمين، وقفت على باب الخباء؛ لترعى العليل والنساء والأطفال، وقد أوشكت النار أن تأخذها، يقول حميد بن مسلم: فدنوت منها وقلت: أمة الله، النار قاربتكِ، فلم تجبني، ثم أدارت وجهها إلي قائلة: يا ظالم، أنا أرى النار ولكن لنا عليل في هذه الخيمة. ثم دخلت عليه فقالت: يابن أخي، ماذا نصنع؟ قال: «فروا على وجوهكم في البيداء». يقول السيد الحلي:

مشى الدهر يومَ الطفِ أعمى فلم يدع *** عماداً لها إلّا وفيه تعثرا
وجشمها المسـرى ببيداء قفرة *** ولم تدرِ قبل الطفِ ما البيدُ والسرى
ولم ترَ حتى عينُها ظل شخصها *** إلى أن بدت في الغاضرية حُسرّا([3])

وهكذا وفقت ربة الخدر بكل صمود في وجه يزيد، وبكل شجاعة وصلابة وقالت له: «أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وضيقت علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في أسار، نساق إليك سوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار أن بنا من الله هواناً وعليك منه كرامة وامتناناً، وأن ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك تضرب أصدريك فرحاً، وتنقض مذرويك مرحاً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور لديك متسقة، وحين صفا لك ملكنا، وخلص لك سلطاننا؟ فمهلاً مهلاً لا تطش جهلاً أنسيت قول الله عز وجل: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ([4])؟ أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله‘ سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن؟»([5]).

إنها العقيلة فخر المخدرات، التي أوضحت أهداف ثورة الإمام الحسين×، وفضحت يزيد الطاغية وجلاوزته، ودافعت عن حياة زين العابدين، وحفظت النساء والأطفال، ووقفت صامدة شامخة بصوتها المدوي من أجل الحق والفضيلة، وفي ذاكرتها كل لحظة عاشتها مع الحسين× حتى وهي ممتدة على فراش الموت، ناسية نفسها، دامعة العين على أخيها:

قد ورثت من أمها زينب *** كل الذي جرى عليها وصارْ
وزادت البنت على أمها *** من دارها تـهـدى إلـى شرّ دارْ([6])

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) بحار الأنوار 18: 210 / 38.

([2]) شجرة طوبى 2: 393. حياة الإمام الحسين× (باقر شريف القرشي) 2: 301. وفيات الأئمة: 450.

([3]) ديوان السيد حيدر الحلي 1: 33.

([4]) آل عمران: 178.

([5]) الاحتجاج 2: 35.

([6]) موسوعة أدب المحنة: 425.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة