كشكول الوائلي _ 140

img

دروس من الهجرة

وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ(1).

مباحث الآية الكريمة

المبحث الأوّل: في تحديد مفهوم الهجرة وأقسامها

ترتبط الآية الكريمة بموضوع الهجرة النبوية الشريفة، والهجرة فيها دروس كثيرة وعبر ضخمة. وقد حدثت الهجرة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله بثلاث عشرة سنة، حيث إن جبرئيل عليه السلام هبط على النبي صلى الله عليه وآله وأمره بها. وكان عمره الشريف عندما هاجر ثلاثا وخمسين سنة. وقد سبقت هجرته الشريفة بعض القضايا، كما أن بعضا منها وقع بعدها؛ فهنا مرحلتان: الاُولى ـ أي مرحلة ما قبل الهجرة ـ وكانت مرحلة تأصيل العقائد، أمّا المرحلة الثانية ـ أي مرحلة ما بعد هجرته صلى الله عليه وآله ـ فكانت مرحلة تأسيس الدولة.

وقد سارع النبي صلى الله عليه وآله إلى الهجرة؛ لأن المشركين قد ألجؤوه إلى ذلك، حيث إنهم عقدوا اجتماعا لهم في دار الندوة ـ وهو ما يعبّر عنه باصطلاح اليوم «البرلمان» ـ لتدارس فكرة اغتيال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.

ولم تكن دار الندوة حينذاك تقتصر على الرجال فقط، بل اشترك فيها حتى النساء؛ حيث كانت اُخت أبي سفيان (عمّة معاوية) وزوجة أبي لهب عضوا فيها، وكانوا يتبادلون الآراء، فأجمع رأيهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله؛ لأنه يشكّل خطرا عليهم. فهؤلاء أرادوا أن يحصّنوا أنفسهم منه بأحد طرق ثلاثة: فجماعة طرحت فكرة الحبس، وجماعة اُخرى قالت: نبعده عنّا، وجماعة ثالثة قالت: نقتله. وطريقة القتل أن يقتلوه جميعا بسيوفهم دفعة واحدة فيضيع دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو الفضل أن يطالبوا بدمه صلى الله عليه وآله.

فاستقرّ الرأي على الأخير وصار القرار أن ينفّذوه في الليلة التي هاجر فيها صلى الله عليه وآله، فهبط جبرئيل عليه السلام فأنزل الآية: وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ. والمكر من الإنسان: الحيلة والتصرّف الغادر، لكنه من اللّه‏: إبطال الحيلة. وهو من باب المقابلة، فنحن نقرأ في القرآن: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا(2)، فهذه سيّئة من باب التقابل؛ جريا على قاعدة العرب؛ حيث يقول شاعرهم:

ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا *** فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا(3)

فيسمون التقابل باسم الفعل. فهنا المكر من اللّه‏ ردّ لمكرهم إلى أعناقهم. ثم بيّن له جبرئيل عليه السلام أنه لابدّ أن يخرج ويبقي أحدا مكانه؛ حتى يوهمهم أنه ما يزال نائما في فراشه، وقال له: « إن اللّه‏ يأمرك أن تضجع عليا مكانك ». فاستدعى النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام ، وقال له: «ياعلي، إن اللّه‏ أمرني أن اُضجعك مكاني هذه الليلة وأن تعتجر بردائي وتنام مكاني». فقال له الإمام عليه السلام : «يا رسول اللّه‏، إذا نمت مكانك أو تسلم؟». قال: «بلى». قال: «روحي لروحك الفدا، ونفسي لنفسك الوقا»(1). ثم أخذ سيفه واضطجع مكانه.

يتبع…

__________________

(1) الأنفال: 30.

(2) الشورى: 40.

(3) البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته. الأمالي ( المرتضى ) 1: 42، 2: 8، شرح نهج البلاغة 16: 101، 19: 221، الجامع لأحكام القرآن 1: 207، 2: 356.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة