كشكول الوائلي _ 136

img

اُمومة الأرض

ثم قالت الآية الكريمة: هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ، وهذا المقطع من الآية يشير إلى الاُم الاُولى للإنسان، وهي الأرض التي انفتق عنه رحمها فولد منها. والغرض من هذا أنّ القرآن الكريم يريد منّا أن نعامل الأرض معاملة الاُم الحقيقية؛ لأنّ الإنسان كما قلنا خرج من رحم الأرض، كما أنّه خرج من رحم اُمّه. وكما يشرب من ثدي اُمّه ويتغذّى فهو كذلك يتغذّى من ثدي الأرض وعطائها غير المحدود، وكما يحنو عليه حجر اُمّه يحنو عليه حجر الأرض. وحجرها هو الجاذبية التي تشدّنا إليها بشكل غريب، ولولا هذه الجاذبية لتناثرنا في الفضاء. فحجر الأرض بهذا يضمّنا ويحنو علينا.

واللّه‏ تعالى هو الخالق المبدع الذي وضع هذه الخاصيات في الأرض ومنحها إيّاها؛ ولهذا نجد الكثير من الأحكام التي شرعها اللّه‏ تعالى حول الأرض وكيفية التعامل معها.

إن الأرض تمرّ اليوم بأزمة حقيقية بسبب هذا التطوّر الهائل في جميع نواحي الحياة، فهناك الكثير من هذه الاختراعات التي تعطي الكثير من الإيجابيات لكنها من جانب آخر تأخذ الكثير من حيوية الأرض وصحة المخلوقات مقابل ذلك. ومن هذا المخصّبات الكيمياوية مثل الأسمدة التي تؤدي إلى تسريع إنماء النباتات أو تسريع إنضاج الثمار أو تكبير حجمها، لكنها في الوقت نفسه تترك مخلفات سميّة في الأرض تتسبب في الكثير من الأمراض للكائنات الحية سواء الإنسان والحيوان منها أو تلك التي تعيش داخل التربة، كما أنّها تتسبّب في تسميم المياه الجوفية. وهذا هو شأن كل ما هو دنيوي حيث يعطي ويأخذ مقابل ذلك ما هو أكثر مما يعطيه.

وهذا هو السبب المباشر في ارتفاع الكثير من الدعوات للتحذير من مخاطر التلوّث البيئي ومحاربته والوقوف بوجه مسبّباته للرجوع بالأرض إلى سابق عهدها الذي كانت عليه قبل عصر الثورة الصناعية(1).

وهذا هو دأب كل إنسان؛ فهو مقابل ما يعطيه من طاقة جسدية وذهنيّة، ومقابل ما يهدره من عمره وربما كرامته بأخذه أجرا على ذلك. وهذا هو شأن من يعطي الأجر أيضا حيث إنه يأخذ مقابله طاقة العامل الذهنية الجسمية وغيرها. تقول الدراسات الحديثة: إن المستوى المعيشي حتى وإن ارتفع من جهة فإنه ينخفض إيكولوجيا، فيحصل هناك توسّع بالسكن على حساب الأراضي الزراعية؛ مما يؤدّي بالنتيجة إلى ضيق نطاق الرقعة الخضراء وزوالها تماما من بعض المدن. وبهذا فإن العلم لا يقدّم إنجازا إلاّ ويأخذ مقابله شيئا.

وهذه الأزمة قد شغلت الاُمم المتّحدة فترة، حتى إنّه عقد مؤتمر في استوكهولم سنة (1972) حضره أعداد كبيرة من العلماء في مجالات النفس والاقتصاد والاجتماع والزراعة وغيرهم. وكانت مهمة هؤلاء معالجة مشكلة التلوّث البيئي المتمثّل حتى بالضوضاء(2) التي تثيرها السيارات وعربات النقل وآلات المصانع ومكائنها. وهذه الاُمور تخلق نسبة عالية من الضوضاء سواء على صعيد الشارع أو المصنع وحتى داخل البيت والمدرسة، وقد وجد أنّ نسبة كبيرة من أسباب الصمم عائدة لهذه الضوضاء.

ومن مظاهر التلوّث ما تحدثه مخلّفات الصناعة والأسمدة من سموم في مياه الأنهر، الأمر الذي يؤدّي إلى القضاء على الحياة البيئية فيها. وكذلك زيادة السكان فإنّها تعدّ تلوّثا أيضا. وقد نتوسّع نحن في مفهوم التلوّث هنا ـ عند مسألة زيادة السكان ـ لأنّ هذه الزيادة قد تكون سلبية وليست إيجابية، وإذا كانت كذلك أصبحت ضارة حيث إنّها تفقد الهدف الذي من أجله وجدت، وهو إعلاء كلمة «لا إله إلاّ اللّه‏» مثلاً كما هو ثابت عندنا.

إن البعض من الشعوب يتّسم بزيادة نسبة الولادات عندهم، وحينما يُطلب منه التريث في مثل هذا الأمر وإعداد العدّة له من كون الأب قادرا على تربية أبنائه إن كثروا وكونه قادرا على إعالتهم يجبك بما حاصله: «ثقله على الأرض ورزقه على اللّه‏». وكأن المسألة مقتصرة على ا لإيلاد والإطعام، وليس هناك مكان لاعتبارات اُخرى، مع أنّ اللّه‏ تعالى يؤكد على وجوب حسن تربية الأبناء ومتابعتهم وعدم الانشغال عنهم في اُمور الحياة والعمل الذي ستصبح الحاجة إليه أكبر والمدّة أطول حينما يكثر الأولاد.

وهذا مؤدّاه تناقص فرص متابعة الآباء أبناءهم وتربيتهم تربية سليمة قائمة على الاُسس العلمية الصحيحة، وزرع الإيمان والتقوى والورع وحب اللّه‏ في نفوسهم. إن على هؤلاء أن يعلموا أن اللّه‏ تعالى يريد من الأب أن يقوم بكل هذا من أجل أبنائه ومجتمعه؛ لأنهم جزء منه يؤثرون فيه سلبا أو إيجابا. وعليه فإن المسألة بهذا المنحى تكون غاية في التعقيد.

يتبع…

_____________

(1) يلاحظ أن من مظاهر التلوّث الناشئ عن التطوّر العلمي حدوث ثقب في طبقة الأوزون (O3) فوق القطب الجنوبي، وكذلك ظاهرة الدفيئة أو ما يسمى بالبيت الزجاجي (ظاهرة التسخين الكوني) وغيرها من مسبّبات القضاء على بعض مظاهر الحياة في الطبيعة.

(2) يذكر أنّ مصطلح التلوّث بدأ يأخذ أبعادا عميقة وواسعة سواء على نطاق الاستعمال أو على نطاق التطبيق، فنجد هناك من يسمي زيادة السكان تلوّثا؛ لأنّه أحد أسباب حصوله، وهو من باب تسمية الشيء باسم لازمه. وهناك التلوّث البصري الذي يرجع إلى تعكير صفاء العين وحاسة البصر بمناظر غير جميلة أو ألوان تعدّ نشازا، وكذلك التلوّث السمعي الذي يكون عادة مردّه الضوضاء الحاصلة نتيجة عمل المكائن والآلات والمحركات والتوربينات وما شاكل.

 ولعل هذا التوسّع كما قلنا يعود بالدرجة الاُولى إلى تسمية الشيء باسم لازمه؛ فكل ما يؤدي إلى الحاق ضرر بالبيئة والطبيعة يعدّ عنصرا ملوِّثا وإن كان غير مادي كمسببات التلوّث السمعي والتلوّث البصري.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة