كشكول الوائلي _ 134

img

تحريف القرآن

ثم انتقلت الآية الكريمة فقالت: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ، وفي المقطع الشريف تنبيه إلى ضرورة السؤال عن القرآن حين نزوله..عن تنزيله ومعانيه وأهدافه وما إلى ذلك من أغراض شريفة ومضامين عالية. وهو أمر يبرّره ما شاهدناه بعد ذلك من الدسّ والتحريف والتزوير في معاني القرآن الكريم ـ لا في ألفاظه ـ مما هو واقع في كتب التفسير والحديث، فلو أنهم سألوا عن معاني الكتاب كافّة لكان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد أجابهم عن كل ذلك، وهو بدوره يبعد كلّ محاولة لتزوير وتحريف معاني القرآن الكريم ومضامينه.

مصحف علي عليه السلام وتحريف القرآن الكريم

إن هذه المسألة ـ تحريف معاني القرآن الكريم دون ألفاظه ـ واقعة فعلاً، إن عندنا روايات تقول: إن المصحف الشريف الذي جمعه أمير المؤمنين عليه السلام هو بحجم هذا المصحف ثلاث مرّات، وهذا ما حدا بالبعض أن يفتروا على الشيعة كذباً بأنهم يقولون بتحريف القرآن، وأن القرآن الصحيح هو ثلاث مرات بحجم القرآن الحالي.

الشيعة لا يقولون بوقوع التحريف بل غيرهم

والجواب على هذا الادّعاء الكاذب يكون بالرجوع إلى كتبنا ومصادرنا في الحديث والعقائد والتفسير تنفي وقوع مثل هذا الأمر، بل غيرنا هو من يقول بذلك؛ فهم يروون مثلاً أن سورة (براءة) قد ذهبت ولم يبقَ إلاّ ربعها، فقد روى الهيثمي في (مجمع الزوائد)(1) والحاكم في (المستدرك)(2) أن حذيفة قال: تسمون سورة التوبة هي سورة العذاب وما يقرؤون منها مما كنّا نقرأ إلاّ ربعها. وأن بعض الآيات نسخت تلاوة لا حكماً كما في الآية « والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله تعالى»(3)، وينسب إلى عائشة حذف آيات الرضاعة بنسخ التلاوة(4)، في حين أننا نقول: إن الموجود بين الدفّتين حالياً هو القرآن كاملاً لا زياة فيه ولا نقص. نعم، هناك تقديم حرف وتأخير آخر، وهناك قراءات تختلف باختلاف القرّاء ورواتها في المدّ والإدغام والإقلاب والإمالة والتفخيم، لكنه ليس تحريفاً. وهذا الأمر موجود في القرآن الكريم بإجماع المسلمين، ومذكور في كتب علمائهم. فليس في عموم مذهبنا من يذهب إلى وقوع التحريف في القرآن الكريم، وإن وقع من واحد أو اثنين فهو شذوذ عن قواعد المذهب ومقتضى معتقداته؛ لأن عندنا أن القرآن الكريم إن وقع فيه تحريف من زيادة أو نقص أو غيره فإن حجّيته تسقط عن الاعتبار، فقد يدفع امرؤ الزكاة أو غيرها مما هو في آية من القرآن الكريم وربما تكون هذه الآية مزيدة، أو أن المكلّف لا يؤدّي واجباً؛ لأن الآية التي ذكرته حذفت من القرآن. وهكذا نجد أن الأمر لا ينتهي عند حد. وكذلك الحال مع الصلاة وغيرها من التكاليف.

وعليه فإن جمهور علمائنا وفقهائنا يرون أن القرآن هو مابين الدفّتين، فلا زيادة ولا نقص. ومن أراد أن يطّلع أكثر على هذا، ويتأكد منه فليرجع إلى مؤلفات علمائنا (رضوان اللّه‏ عليهم) كالشيخ المفيد في (أوائل المقالات)(5) والشيخ الصدوق (6) والشهيدين والشيخ البهائي وغيرهم، فهؤلاء الأفذاذ لهم آراء صريحة وواضحة في هذا المجال لا تقبل الشكّ والتأويل.

ومع هذا فإننا نسمع ونرى إلى الآن من يتّهم الشيعة بالقول بتحريف القرآن الكريم، وأنا لا أدري كيف يجرؤ إنسان مسلم المفروض به أنه يخشى اللّه‏ تعالى على مثل هذا الافتراء، مع أنه لم يرجع في مثل هذه الافتراءات والتقوّلات إلى مصادرنا بل إلى مصادر من يكتب عنا ممن هم ليسوا منّا. زار الكاتب المصري المعروف أحمد أمين النجف مرة والتقى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله فقال له الشيخ: إنّك تقول: إن في النجف أولاداً يلبسون الأقراط، وهم أبناء المتعة، فلنذهب معاً ونطف في شوارع النجف لنرى ما إذا كان ما قلته حقّاً أم لا. فقال أحمد أمين: أعتذر عن هذا؛ فقد رأيته في كتب المستشرقين.

ولا أدري لم يعمد كاتب إلى نقد طائفة عن طريق ما يكتبه عنها أعداؤها، مع أن مكتباتنا غنيّة بالمصادر والكتب. ونحن إن أردنا أن نحسن الظن بمثل هؤلاء فإننا نصفهم بالسذّج والمغفّلين، وإن أردنا ألاّ نحسن الظن بهم فإننا لا نعدو وصفهم بأنهم مأجورون يبغون بثّ الفرقة بين المسلمين. وإلاّ فهل يصحّ أن تُنقد آراء أبي حنيفة أو مالك من خلال ما يكتبه عنهما الآخرون؟ إن المنهج العلمي الدقيق والصحيح يلزمنا بأن نرجع إلى كتبه هو أو كتب أتباع مذهبه لنأخذ منها مادة النقد والمناقشة. ثم إن مسألة المتعة عندنا أصبحت مسألة نظرية لا تعيش إلاّ في بطون الكتب ولا واقع معاش لها، وهي نظرية نتّفق نحن وأبناء السنة على أصل مشروعيتها وإن كنا نختلف في وقوع النسخ فيها.

إذن فالقرآن يحثّ على وجوب تتبّع أحكامه والسؤال عنها، وهذا ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في مصحفه الذي يعدل هذا المصحف المعروف ثلاث مرّات؛ حيث إنه عليه السلام كان كلّما نزلت آية سأل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله عن معناها أو ما فيها من أحكام وتشريعات، كآية الوضوء(1)، حيث إن معرفة الحكم تقتضي معرفة ما هو المقصود من الْمَرَافِقِ. وما المقصود بالغاية فيها؟ فـ إِلَى من الألفاظ المشتركة في كلام العرب، حيث إنها تأتي بمعنى (من) وتأتي بمعنى انتهاء الغاية، فكان عليه السلام يأخذ المعنى الحقيقي المراد من الرسول صلى الله عليه وآله ويدوّنه تحت كلّ آية مختصّة به بها أو فوقها. وهذا هو كل ما في الأمر، ونحن حينما نقول: مصحف علي أو مصحف فاطمة فإنما نقصد به المصحف الشريف مع شروحه التي أضافها الإمام عليه السلام عليه نقلاً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.

يتبع…

_______________

(1) مجمع الزوائد 7: 28.

(2) المستدرك على الصحيحين 2: 331.

(3) الطبقات الكبرى 3: 334، المنخول في علم الاُصول ( الغزالي ): 392.

(4) التفسير الكبير 3: 230. وذكر هذه الاُمور مستفيض عندهم ومشتهر، ولعلّ ما في كتاب (الإتقان) للسيوطي في باب عدد سور القرآن وآياته وحروفه، وفي غيره كفاية، ففي ( الإتقان ) مثلاً ينقل عن الخليفة الثاني رأيا مفاده أن عدد حروف القرآن يبلغ مليونا وسبعة وعشرين ألف حرف. وكذلك عدد السور في قرآن اُبي فإنها مئة وستّ عشرة سورة؛ في حين أن إجماع علماء المسلمين على أن عدد سور القرآن مئة وأربع عشرة سورة. وهاتان السورتان يرى أنهما لم تكتبا، وأنهما قد سقطتا، ويسميهما سورة (الخلع) وسورة (الحفد)، وكان يقنت بهما اُبي والخليفة الثاني نفسه. بل إنه ( الخليفة الثاني ) يصرّح بأنّ هناك آيات قد حذفت من القرآن مثل آية الرجم، وينسب إلى بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله أيضا أنّ بعض الآيات قد أكلها الداجن. انظر: مسند أحمد 1: 23، 29، 36، 40، 50، 5: 129، 132، 6: 269، صحيح مسلم 2: 1050 / 726، 1075 / 1452، سنن الدارمي 2: 2179، السنن الكبرى 8: 211، الجامع الصحيح ( سنن الترمذي ) 456: 3، المصنف ( الصنعاني ) 7: 467، 11: 470، سنن ابن ماجة 1: 625، المستدرك على الصحيحين 4: 359، 360، الكشاف 3: 518، الجامع لأحكام القرآن 14: 113، 20: 251، مناهل العرفان 1: 27، 257، 2: 111، روح المعاني 1: 25، الطبقات الكبرى 3: 334، الإتقان 1: 19 / 971، 242، 176 / 832، 178 / 843، 3: 82، 84، 206، الدر المنثور 6: 559 ـ 560، وغيرها كثير.

(5) أوائل المقالات: 81 ـ 82.

(6) تصحيح اعتقادات الصدوق: 84.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة