كشكول الوائلي _ 132

img

الإنسان والتشريع

فالقرآن الكريم يقول لهؤلاء: من أين جئتم بهذا التخبّط؟ ثم إن هذا التخبّط يتضمّن أمرين في غاية الخطورة:

الأول: إهدار المال والطاقة

فكون هذه الدابة سائبة أو وصيلة أو ما إلى ذلك هو ـ كما قلنا ـ هدر للطاقة التي يمكن استثمارها فيها عبر العمل والنقل، وهدر للمال الذي يكون إزاء ما فيها من لحم، وللمال الذي ترتع فيه كالزرع والشجر وغيره دون أن يردعها أحد عنه.

الثاني: تصدّي من ليس له أهليّة التشريع له

كما أن هذا الأمر ينطوي على خطورة التشريع غير الصحيح، فإن يزجّ الإنسان نفسه فيما لا يخصّه ويدخلها فيما لا يعنيه مما لا يعلم جميع مداركه وحيثياته لهو أمر في غاية الخطورة؛ لأن للتشريع أهله، ولا ينبغي لكلّ أحد أن يمارس هذا؛ فهو حقّ من له أهليه التشريع، فقط وهو اللّه‏ تعالى.

وحينما يقرر الإنسان أن هذا للصنم وهذا له فإنه يفعل ما ليس في صالحه ولا في صالح المجتمع، وإلاّ فما هي إمكانيات هذا الإنسان حتى يعطي نفسه حقّ التشريع؟ ومكمن الخطر هنا أنه يجعل تشريعاته مقابل تشريع السماء، وهو أمر ليس من مختصّات عصر الجاهلة فقط، بل إنه يحدث في جاهلية القرن العشرين أيضاً، فمن السهل جدّاً أن نسمع من يطلّ علينا ويقول: إن الإنسان والمجتمع من حقّهما أن يشرّعا لهما ما يحفظ وجودهما وينظم حياتهما. فالإنسانية من وجهة نظر هذا البعض مدينة لفقهاء القانون في تنظيم شؤونها، مع أن هذا المشرع الإنسان مهما كان عبقرياً في تصور هؤلاء، فهو لا يعدو أن يكون كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : «تؤلمه البقّة، وتقتله الشرقة، وتُنتِنُهُ العَرقة»(1).

وهو لا يستحقّ أكثر من وصف فرويد له بقوله: أستطيع أن أقلبه إلى حيوان بلحظة. ولما سئل: كيف؟ قال: ألتقي إنساناً في الشارع فأضربه، وحينها سينزع عقله وإنسانيته وسيتحوّل إلى حيوان لا يفكّر إلاّ في ردّ الفعل الانتقامي، ولايدور في خلده أن هذا الذي ضربه ربما كان فاقد العقل أو واهماً.

وكثير من بني البشر من يعيش مع غيره سنوات طويلة ثم في لحظة واحدة ينسى صحبة كلّ تلك السنوات لأتفه الأسباب، ويتحول إلى عدوّ كاسر. يقول الشاعر:

احذر عدوّك مرّة *** واحذر صديقك ألف مرّه

فلربما انقلب الصديـ *** ـق فكان أعرف بالمضرّه(2)

وهو حكيم في هذا؛ إذ أنه يتكلّم عن تجربة واعية شاهدها ووعاها. وإن كان الأمر بهذا الشكل فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يشرّع لغيره، وهو ما بين لحظة واُخرى ينقلب عدواً لذلك الغير؟ وكيف له أن يضع القوانين ويسنّ الدستور وهو عرضة للخضوع لشهواته وانفعالاته لأدنى الأسباب ولأبعد الحدود؟ ثم إن لنا أن نتساءل عن الإنسانية والمعروف الواجب التعامل بهما بين الناس، وعن الدواعي التي تحيل أخاً في الدين أو الإنسانية عدواً شرساً للاختلاف معه بالفكر والعقيدة. مع أن هذا ما لا نشاهده عند ذوي النفوس الكبيرة التي تصفح عمّن خالفها وأساء إليها، كان الإمام علي عليه السلام على منبره فسئل عن بيع اُمّهات الأولاد، فقال عليه السلام : «كان رأيي ورأي عمر ألاّ يُبعن، ثم رأيت بيعهن».

واُم الولد هي الجارية المملوكة التي إذا وطئها مالكها بملك اليمين وحملت منه تصبح ملكيّتها متزلزلة؛ فلا يجوز بيعها ولا غيره. وبعد أن تلد تسمى «اُم ولد» إكراماً لولدها ورعاية له، فإذا مات سيدها انعتقت من حصة ابنها من الميراث وأصبحت حرّة. فقال له عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك(3).

فالإمام عليه السلام أبدى رأيه في هذه المسألة حينما اعترضه عبيدة السلماني، لكنه عليه السلام بيّن له أن له رأيه، ولا يضيره هذا، في حين أن الحجّاج هو الذي خطب الناس مرة حتى غابت الشمس، فقام له أحدهم وهو يخطب وقال له: أصلحك اللّه، الوقت لا ينتظرك، والربّ لا يعذرك. فقال له الحجّاج: ما تقوله صحيح، لكن مثلك لا يأمر مثلي. ثم أمر به فسجن(4).

فهذا هو الفارق بين ذوي النفوس الكبيرة وذوي النفوس المتدنّية، وبين المعادن الثمينة والمعادن الخسيسة، فالإمام عليه السلام يقول له: لك رأيك ولي رأيي، ولا اُجبرك على اتّباع رأيي، والحجّاج يقول: خذوه فاحبسوه.

كان أمير المؤمنين عليه السلام جالسا في أصحابه، فمرّت بهم امرأة جميلة، فرمقوها بأبصارهم، فقال عليه السلام : «إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها. فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله؛ فإنما هي امرأة كامرأة ». فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام : «رويدا إنما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب»(5).

فكأنه يريد أن يقول لهم بأنه إذا أراد أن يعاقبه فإنه سيسبّه بمثل ما سبّه به ولكنه يترفع عن ذلك، فهو قد ارتكب خطأ ولا يريد أن يكون مثله وينزل إلى مستواه ويقابل خطأه بمثله(6).

وهؤلاء هم ذوو النفوس الكبيرة الذين إذا تربعوا على كرسي الحكم يُطمأن إلى أن هناك إنسانية وفكراً وحقاً وعدلاً ستسود الاُمّة وتعمّ المجتمع، أما أن يتربّع على كرسي الحكم من هو من نمط عبد الملك وأسلافه وأمثالهم ممن جاء بعدهم ممن ينتابه مركّب النقص، ويملؤه الحقد، ويسيطر عليه كره العدل وحبّ الدم فإن الكون سيتحول حينها إلى كارثة؛ لأن هؤلاء نقمة حقيقية. وبهذا نجد أن تعبير الإمام عليه السلام : «رويدا إنما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب» في غاية العدل والكمال، بل وبلوغ أعالي درجات الرقيّ في مراتب سلّم الكمال الإنساني.

يتبع…

___________________

(1) نهج البلاغة / الحكمة: 419.

(2) الفتوحات المكية 2: 314، 4: 550، شرح نهج البلاغة 19: 39.

(3) بدائع الصنائع 4: 130، الإحكام في اُصول الأحكام 1: 254، 258، 4: 43، شرح نهج البلاغة 7: 72.

قال أبو بكر الكاشاني: على أنه ـ أمير المؤمنين عليه السلام ـ كان لا يرى استقرار الإجماع ما لم ينقرض العصر. ومنهم من قال: كانت المسألة مختلفة بين الصحابة (رضي الله عنهم) فكان علي وجابر (رضي الله عنهما) يريان بيع اُم الولد.

 هذه هي الرواية في مصادر أهل السنّة، وهذه هي تعليقة أبي بكر الكاشاني، مع أن رواياتنا وفقهنا صريحان في النصّ على أن اُم الولد تعتق من نصيب ابنها. انظر: الفقيه 4: 162 / 509، وسائل الشيعة 11: 53، المختصر النافع: 164، كشف الرموز (الفاضل الآبي) 2: 75، قواعد الأحكام 3: 231، 256، إيضاح الفوائد 3: 569، المهذب البارع 3: 109، مسالك الأفهام 13، 521.

(4) البيان والتبيين 1: 360، المستطرف من كل فن مستظرف 2: 16، محاضرات الاُدباء 1: 239.

(5) نهج البلاغة / الحكمة: 420.

(6) ولا ننسَ وصيته عليه السلام ليلة استشهاده بقاتله ابن ملجم حيث قال: «ما فعل ضاربي؟ أطعموه من طعامي واسقوه من شرابي، فإن عشت فأنا أولى به». كشف الغمّة 2: 60، مناقب أمير المؤمنين عليه السلام (الخوارزمي): 388 / 404.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة