كشكول الوائلي _ 116

img

معنى الزوج

فالزوج يطلق على المشاكل (المشابه) الذي له فرد من جنسه، فكل من له فرد من جنسه يشاكله يقال له «زوج». وهذا معنى المماثلة. وهناك معنى آخر للزوجية هو الذكر والاُنثى، وهو المعنى الذي تريده الآية الكريمة، فهي أخرجت المعنى الأوّل وإن كانت المشاكلة موجودة ضمناً. فالمقصود بالزوجين هنا: الذكر والاُنثى كما هو صريح الآية الكريمة، أي من يتكوّن منهما النسل.

وفي الآية الكريمة إيماءة إلى أن هذا الطريق هو القناة الطبيعية التي جعل اللّه‏ تعالى منها وسيلة لإيجاد امتداد النوع البشري. وكأن فيها إجابة تساؤل مفروض مفاده أنه إذا كان اللّه‏ تعالى قادراً على كلّ شيء، فلماذا لايوجد الإنسان بالطريقة نفسها التي يوجد بها النبات، فيخرج من التراب دون الحاجة إلى اللجوء إلى مشقّة الحمل وعناء الولادة وآلامها ومضاعفاتها، ثم بعد ذلك مرحلة الحضانة وما يصاحبها من ألم ومعاناة؟ إننا نلاحظ أن الكثير من الحيوانات بمجرد أن تخرج من بطون اُمهاتها فإنها تحاول أن تمشي فتحرك أقدامها وتقع، تفعل ذلك مرّات عدة حتى تمشي في ساعتها، وكذلك بعض الطيور غير الطيّارة التي تمشي فراخها بمجرد أن تفقس البيضة عنها فتخرج منها مع ملاحظة أنها تخرج منها مكسوّة بزغبها، أمّا الإنسان فطفولته مرحلة كبيرة واسعة يحتاج فيها إلى الرعاية المركزة والعناية الفائقة كي يصل إلى مرحلة يتمكّن فيها من الاعتماد على نفسه بشكل أو بآخر. فهي طفولة طويلة تحتاج إلى سنوات عدّة لإكمال الرعاية فيها من حمل وتوفير طعام وكساء. وبهذا فالإنسان يحتاج إلى أن يُلفّ بخرقة أول ولادته كما أنه يحتاج لذلك عند وفاته:

 وهزّة المهد في أيدي قوابلنا ***  كهزّة النعش عند الحمل أحيانا

 والعمر حبّات أسلاك تفرّقها *** أنفاسنا وصفيح اللحد مأوانا

وهذا التساؤل ليس له مورد في واقع الأمر؛ لأن من المفروغ منه أن الإنسان يجب ألاّ يقترح على اللّه‏ تعالى أو يسأله عن الأسباب التي من أجلها كان الشيء الكذائي بالهيئة أو الكيفية الكذائية؛ فهو تعالى أرحم بنا من أنفسنا، كما أنه تعالى حكيم عليم، والحكيم لا يصدر عنه إلاّ ما يتناسب مع الحكمة والصواب. ثم إن أفعال اللّه‏ عزّوجل لا يمكن أن نجعلها عرضة للتساؤل؛ لأنه تعالى كما قلنا عليم، والعليم معناه أنه أعلم من غيره؛ فهو أعلم بنا وبمصالحنا منّا ومن غيرنا.

ثم إن الحكمة واضحة ظاهرة في عملية ولادة الإنسان بهذا الشكل، ذلك أن بهذه الصورة من دورة الولادة تنشأ علاقة عاطفة وحبّ وحنان بين الأب والاُم من جهة وبين أبنائهما من جهة اُخرى، وهذه العلاقة تكبر مع حجم الألم والمشقّة. وليلعم بأن هذه العلاقة موجودة حتى عند الحيوان؛ لأنه يتوالد بالطريقة عينها لكن لا بالمستوى نفسه من العلاقة الإنسانية؛ لأن العلاقة الإنسانية قائمة على أساس امتزاج العواطف وتبادلها والارتباط والتفاعل المستمرّ، وهي علاقة مبتنية على الوشائج الروحية التي تنشأ بين الأب والاُم والطفل.

وقد ذكرت فيما مضى رأي «سماريو» إحدى عالمات النفس البارزات تقرّر أن العلاقة بين الاُم والرضيع ليست علاقة ثنائية، وإنما هي علاقة ثلاثيّة، فالطفل يرتضع لبن الاُم وحنانها، ومشاعر الأب أيضا؛ لأن الاُم إذا كانت سعيدة مع الأب فإن ذلك ينعكس على لبنها وعلاقتها ودفئها ومشاعرها، وإذا كانت غير سعيدة انعكس سلبا على ذلك أيضا، وهو بالتالي في كلتا الحالتين ينعكس على الطفل إيجابا وسلبا. إذن هناك ثلاثيّة تتحكّم بحالة الطفل هي: الأب.. الاُم.. الطفل.

وعليه فإن الطفل إذا فقد أحد الأبوين فإنه ينشأ نشأة غير طبيعية، يتملّكه شعور بالنقص وتذبذب عاطفي مشوب بعدم التلاؤم.

إذن فهذا اللون من الولادة والتربية والطفولة الطويلة أمر حيوي وهام للطفل؛ لأنه ممّا يترتب عليه وجود نوع من التناغم العاطفي والتلاؤم الروحي بين الطفل وأبويه من جهة، ويترتب عليه أيضاً تفجّر ينابيع المودّة والرحمة في قلبي الأبوين للطفل من جهة ثانية. فالطفل لا يمكن أن يجد نبعاً من الحنان والرحمة صافياً لا يشوبه كدر إلاّ عند أبويه؛ ولذا فإن اللّه‏ تعالى أراد أن تقابل هذه الرحمة برحمة اُخرى مثلها، فقال جل من قائل: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا (1). فهذا الطفل إذا التصق بصدر اُمّه أو تعلّق برقبتها أو برقبة أبيه فإنه لا يرضى أبداً بأن يؤخذ منهما، بل إنه يتشبّث بهما وكأنه لا يريد أن يفارقهما.

وممّا يصبّ في هذا المجال ما يروى من أن امرأتين ضرّتين كانتا في أيام الخليفة الثاني قد تنازعتا على طفل تحملانه؛ ذلك أن إحداهما كانت قد ولدت اُنثى، والاُخرى ولدت ذكرا، لكن اُمّ البنت ادّعت أن الولد لها وأن البنت للاُخرى، أمّا الاُخرى فقالت: لا، هذا ابني. وطال النزاع، فدخل أمير المؤمنين عليه السلام ، فالتفت إليه الخليفة الثاني وقال: احكم بينهما. فكان عليه السلام كلّما حاول أن يجعل اُمّ البنت تعترف بأن البنت لها امتنعت، فوعظهما وخوّفهما فأقامتا على التنازع والاختلاف، فقال عليه السلام : «ايتوني بمنشار». فقالت المرأتان: ما تصنع؟ فقال عليه السلام : «أقدّه نصفين لكلّ واحدة منكما نصفه».

فسكتت إحداهما وقالت الاُخرى: اللّه‏ يا أمير المؤمنين، إن كان لابدّ من ذلك فقد سمحت به لها. فقال عليه السلام : «اللّه‏ أكبر هذا ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقّت وأشفقت». فاعترفت المرأة الاُخرى أن الحقّ مع صاحبتها وأن الولد لها، فسرّ عمر ودعا لأمير المؤمنين عليه السلام بما فرّج عنه في القضاء(2).

فهو عليه السلام إنما أعطى الطفل لهذه؛ لأنها انفجرت حناناً ورحمة وعواطف مشبوبة نحو هذا الطفل الذي لو لم يكن طفلها لما انفجرت عندها هذا العاطفة تجاهه، ولما فضّلت حياته على موته وإن كان في حياته سلبها إياه.

ولا شكّ أن هذا نابع من الحنان الغريزي والرحمة الذاتية ومشاعر الاُمومة التي أودعها اللّه‏ فيها تجاه الطفل؛ لأنه هو الذي يلطّف حياة الاُسرة ويرطب أجواء الإنسانية، بل هو جنة الدنيا التي لولاها لأصبحت الحياة جحيماً؛ فعالم الكبار عالم مملوء بالحقد والحسد واللؤم والعداء والبغضاء، في حين أن الطفل صفحة بيضاء بريئة، وكل ما فيه طبيعي؛ ضحكته ومشيته وحركاته فإن البغض ليس إلاّ من شتم الكبار فما إن يضحك أحدهم حتى تحسّ أن وراء ضحكته ما وراءها، ولا تعرف ما الذي يريده منها، وكذلك لا تعرف ما الذي يخبّئه وراء بكائه، يروى أنه عليه السلام جاءه خصمان، وكان أحدهما يبكي بحرقة ويتظلّم على خصمه، فقال له: « اجلس؛ فإن إخوة يوسف َجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (3)… » (4).

وهذا حال الكثير ممّن لا يمكن للمرء أن يحزر ما الذي يختبئ وراء ضحكته أو بكائه من أهداف أو قصود، أما الطفل فهو بمنأى عن كل هذا، فهو لا يملك سوى البراءة، ولا يعرف غيرها؛ ذلك أنه صفحة بيضاء كما قلنا.

وبهذا نعرف أن الزواج بهذا الشكل المرسوم إسلاميّاً هو اللون الطبيعي لامتداد الحياة واستمرارها، واستمرار الحبّ والحنان المتبادل بين الأبناء والآباء، وإلاّ لغرقت الدنيا في خضم عالم متوحّش رهيب.

يتبع…

_________________

(1) الإسراء: 24.

(2) الإرشاد 1: 205 ـ 206، شجرة طوبى 2: 418، ونسبها في المصنف (الصنعاني) 7: 362، والسنن الكبرى (البيهقي) 3: 472 / 5957 لنبي اللّه‏ سليمان بن داود عليهما السلام.

(3) يوسف: 16.

(4) بحار الأنوار 42: 175، شرح نهج البلاغة 14: 29، وفيهما أنها بين شريح وامرأة.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة