كشكول الوائلي _ 106

img

وربما يقول أحد ما: إن إِنَّمَا تفيد الحصر، كأن تقول مثلاً: إنما الأحمر هذا اللون، أي أنه لا أحمر إلاّ هذا اللون. وعليه فإن المعنى يكون هنا أنه لاتوجد اُخوّة إلاّ اُخوّة الإيمان. وتترتّب على هذه الاُخوة آثار عدّة منها:

الأثر الأول: أن الاُخوّة ليست للدم

فبعض الإخوة وإن كانوا من صلب واحد أو من بطن واحد لكن هذه ليس علة للإخوة؛ لأن المعلول لايتخلّف عن العلّة، كشعاع الشمس الذي لا يتخلف عنها إذا طلعت. فالإخوة الذين يكونون من صلب واحد وبطن واحد قد لا يتحقّق معنى الاُخوّة فيما بينهم، كأنها تُرى بينهم العداوة والبغضاء. ونستنتج من هذا أن الانحدار من صلب واحد أو بطن واحد لا يمكن أن يكون علّة للاُخوّة.

وكمثال على هذا قصّة الأمين والمأمون فهما أخوان كما هو معروف، وقد عاشا في ظروف موحدة، لكن كان لكل واحد منهما اتجاهه في الحياة، وقد وصل الأمر بينهما إلى درجة أن دخلت جيوش المأمون على الأمين وقتلوه وشدّوا الحبل به، وجرّوه في الشارع. لقد قتله المأمون مع أنه أخوه، وهذا يدل على انعدام الإيمان فيما بينهما الأمر الذي أوصلهما إلى أن يصبغا مياه دجلة باللون الأحمر، وتضطر مجموعة من عائلة الأمين إلى التشرّد. وهكذا انتهى الأمر إلى هذا الحال على الرغم من كونهما أخوين.

فمجرد الانتماء إلى الأب أو الاُم ليس علّة للاُخوّة. ثمّ إن المشرّع الإسلامي يرتّب آثارا على اُخوّة الإيمان أكثر ممّا يرتبها على اُخوّة الدم. فالإمام الرضا عليه السلام مثلاً كان له إخوة، لكن لما توفي الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ، فإن أول من خاصمه إخوته، فرفعوا عليه دعوى مفادها أنه قد أخذ ميراث أبيهم واستبدّ به. وهذه تهمة خطيرة لإمام مفترض الطاعة، مع أن الإمام الرضا عليه السلام كان يوصل الأموال إليهم ويتعاهدهم واحدا واحدا.

وكان أحدهم ـ ويسمى العباس ـ أشدّ خصومة للإمام الرضا عليه السلام من غيره؛ بحيث إنه لايتورّع عن اتّهام الإمام عليه السلام في أي مجلس. وهؤلاء كانوا يعيشون محنة من المفروض أن تجمعهم، ولكنهم لم يراعوا ظرف الإمام عليه السلام . ومن مظاهر هذه المحنة ـ ومحن أهل البيت عليه السلام كثيرة ـ أنه حينما سجن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام حصل تحرّك شيعي في بعض المناطق الموالية لأهل البيت عليه السلام ، وقد أخذ هذا التحرّك صبغة ثورات ضد الرشيد والمأمون من بعده، وكان الجلودي قائد المنطقة الشرقية في خراسان للرشيد، وثم انتقل إلى المدينة، فأرسل إليه الرشيد وقال له: إني آمرك أن تكبس دار موسى بن جعفر وتحرقها بالنار، وتأخذ الملابس والحلي من العلويات. وفعلاً جاء الجلودي ووضع الحطب وأشعل النار، فأحرق دار الإمام عليه السلام ، فخرج الإمام الرضا عليه السلام من الدار وهو يردّد: «أنا ابن إسماعيل ذبيح اللّه‏، أنا ابن إبراهيم خليل اللّه‏»، فأطفأ النار، فقال له الجلودي، أنا مأمور بأخذ الحلي والحلل من النساء. فقال له الإمام الرضا عليه السلام : «أما هذا فلا سبيل إليه، ودونه رقبتي. وأنا آتيك بالحلي بيدي وأعطيك الضمان بذلك على ألاّ تتعرض لعائلتي». وفعلاً دخل الإمام عليه السلام وانتزع ماعند النساء من الحلي فأعطاه إيّاه(1).

ومرت أيام وليالٍ، وجاء المأمون للحكم ونصب الإمام الرضا عليه السلام وليا للعهد، وجاء بالجلودي، فلما رآه الإمام الرضا شاهد أن وجه المأمون قد تغيّر؛ فقد كان يعرف ما الذي فعله الجلودي مع عائلة الإمام وفي داره، لكن الإمام عليه السلام التفت إليه وقال: « هب لي هذا الشيخ ». فهو عليه السلام يتشفّع له ويرجو المأمون ألاّ يعاقبه مع ما له من موقف شائن معه، لكنه ظن أن الإمام عليه السلام إنما يحرّض المأمون ضدّه، فالتفت إلى المأمون وقال: اُقسم عليك باللّه‏ ألاّ تسمع كلام هذا فيّ. فقال المأمون: أنا فعلاً سوف لن أسمع كلامه فيك، اطرحوه واضربوا عنقه. فقتله(2).

فالإمام الرضا عليه السلام وإخوته عاشوا هذه الأجواء المشحونة، وتعرّضوا إلى محنة، وكان عليه السلام يعول عوائلهم لكنهم مع هذا وقفوا منه موقفا غاية في الشدّة، ولاحقوه مع أنهم إخوة من أب واحد. فالانتماء إذن من اُم أو أب ليس علّة للحب والاُلفة والاُخوّة، أمّا الإيمان الواقعي فهو علّة للاُخوّة، فاُخوّة الإيمان

اُخوّة ثابتة تجمع بين القلوب، والمؤمن ينصر المؤمن ويراعيه. وهذا هو السبب الذي من أجله يحرص الإسلام على غرس الإيمان في النفوس، فهدفه هو أن تتحقق الحياة الكريمة القائمة على الحبّ والمودّة. وكلّ شيء ينافي الاُخوّة يحاربه الإسلام.

والإسلام يحث على التكافل بين المؤمن وأخيه المؤمن: « أ أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى؟»(3). فليس من الإسلام من يبيت مبطانا وإلى جانبه جار يتضوّر جوعا. فالإنسان لو يخرج ما عليه من حق شرعي لما جاع جاره، فإن لم يفعل لم يكن هناك جوّ إيماني. وهناك نوعان من الجوع، نذكر رواية يرويها صاحب ( الوسائل ) الحرّ العاملي في وسائله فيقول: عن معتب قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام وقد تزيّد السعر بالمدينة: « كم عندنا من طعام؟ ». فقلت: عندنا ما يكفينا أشهرا كثيرة. فقال عليه السلام : « أخرجه وبعه ». قال: فقلت له: وليس بالمدينة طعام؟ قال: « بعه ».

يقول: فلمّا بعته قال: « اشترِ مع الناس يوما بيوم ». وقال: « يا معتب، اجعل قوت عيالي نصفا شعيرا ونصفا حنطة، فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني اُحب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة »(4).

فهذه خطوة عظيمة من الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وتصرفه هذا تشريع، فهناك الآن من يعتبر عمل الصحابي سنّة، وكذلك أهل البيت عليهم‏السلام فإن فعلهم يعدّ تشريعا. وفي الكتاب نفسه يروي العاملي رواية اُخرى فيقول: أصاب أهل المدينة غلاء وقحط، حتى أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير ويأكله ويشتري ببعض الطعام، وكان عند أبي عبد الله عليه السلام طعام جيّد قد اشتراه أوّل السنة، فقال لبعض موإليه: « اشترِ لنا شعيرا فاخلطه بهذا الطعام، أو بعه؛ فإنا نكره أن نأكل جيّدا ويأكل الناس رديئا » (5).

فنحن مسلمون، وهذا اللون يحقّق معنى الإخاء فيما بيننا، ولهذا فإننا نجد في باب الحكرة أن الرجل المحتكر (والاحتكار ليس في الطعام فقط، بل هو في كل شيء يسبب ضررا للمسلمين ويختصّ به رجل واحد) مخالف للإيمان.

يتبع…

____________________________

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 171 ـ 173.

(2) المصدر نفسه.

(3) نهج البلاغة / الكتاب: 45.

(4) وسائل الشيعة 17: 436 ـ 437 / 22932، وانظر الكافي 5: 166 / 2.

(5) وسائل الشيعة 17: 436 / 22931، وانظر الكافي 5: 166 / 1.

الكاتب الادارة

الادارة

مواضيع متعلقة