فليرحل معنا ـ 1

img

محاضرة اليوم الأول من محرم الحرام لعام 1439

تقديم: هدى الشملاوي/ أم السادة

قال تعالى في محكم كتابه وشريف خطابه: ﴿وأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

من النعم الإلهية العظيمة علينا هو مضمون هذه الآية الشريفة؛ لأن ظاهر قوله: ﴿لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ أن الغاية من الوحي الإلهي هو إبلاغ القرآن الكريم لطائفتين. ويذكر صاحب تفسير الميزان أنه يمكن استنتاج هاتين الطائفتين من التقابل بين ضمير الخطاب و بين من بلغ؛ لأن المراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة في زمن حياته أو بعده؛ وهذه الدلالة مستفادة قوله ﴿لأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾،» فالمقصود بهم المخاطبين بالآيات الكريمة وهم الذين شافههم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة ممن كانوا في عصره الشريفة سواء تقدم دعوته لهم على نزول الآية أو قارنه أو تأخر عنه.

فقوله: ﴿وأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ يدل على عموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة، و إن شئت فقل: تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله و كتاباً له ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة.

وفي تفسير البرهان مايؤكد ذلك، عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن قول الله عز و جل: ﴿وأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ قال: بكل لسان.

ولما كانت العترة عدل القرآن فإن جميع خطاباتهم الجمعية بهذا المقام، حجة من الله و كتابٌ له ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن صدورها إلى يوم القيامة. ولا يمكن تأطيرها بزمان إلا مع قيود أو قرائن صارفة عن عمومها وإطلاقها. وعليه ينبغي العناية البالغة بكلماتهم وخطبهم وبياناتهم الشريفة ومن أهمها الروايات، السنن، نهج البلاغة، الصحيفة السجادية. وفي هذه الأيام أيام الله وشعائره العظام ينبغي أن نولي خطابات سيد الشهداء جانباً عظيماً من وافر ومزيد الاهتمام والعناية لأسباب كثيرة واضحة لكل ملتفت ومتأمل في معطيات عصرنا الحاضر بالذات.

حين نلقي نظرة على خطاباته الشريفة نجدها على ثلاثِ مراحل:

الاُولى: ما صدر عنه وهو في المدينة إلى لحظة خروجه من مكة، ولا نقصد بذلك ما صدر عنه في سنة 60 هـ فقط، فإنه عليه السلام في تعاطيه مع خبث معاوية كانت له مواقف جبارة، كما كانت له جهود عظيمة وحثيثة في دفع إرادة الاُمة قدماً من خلال توعية النخبة من فقهاءٍ وعلماء وتوجيههم نحو الواجب الملقى عليهم. ومن أجلى المصاديق خطبته في مِنى لجمع العلماء والمثقفين حسب تعبيرنا،‌ وذلك قبل‌ موت‌ معاوية‌ بسنة‌، عندما حجّ الحسينُ بنُ علي‌ّ صلوات‌ الله‌ عليه‌ ومعه ‌عبد الله‌ بن‌ عبّاس‌ وعبد الله‌ بن‌ جعفر، فجمع‌ الحسينُ عليه‌ السلام‌ بني‌ هاشم‌ رجالهم‌ ونساءهم‌ ومواليهم‌، ومن‌ الأنصار ممّن‌ يعرفه‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌ وأهل‌ بيته‌، ثمّ أرسل‌ رسلاً وضمّنهم توصياته: «لا تَدَعوا أحداً ممّن‌ حجّ العام‌ من‌ أصحاب‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ المعروفين‌ بالصلاح‌ والنسك‌ إلّا اجمعهم‌ لي‌».

يذكر المؤرخون أنه اجتمع‌ إليه‌ بمنى‌ أكثر من‌ سبعمائة‌ رجل‌ وهم‌ في‌ سرادقه‌، عامّتهم‌ من‌ التابعين‌ ونحو من ‌مائتي‌ رجل‌ من‌ أصحاب‌ النبي‌ّ صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله وخطب فيهم خطبة عظيمة جديرة بالتأمل والالتفات، ومن أهم خطبه في هذه المرحلة أيضاً هي خطبته عندما عزم على الخروج من مكة (زادها الله شرفاً) والتي نتحدث عن بعض معطياتها في هذه العُجالة إن شاء الله تعالى‌.

أما المرحلة الثانية: ما صدر عنه وهو في طريقه إلى كربلاء.

والمرحلة الثالثة: تبدأ من لحظة نزوله أراضي نينوى وحتى استشهاده ولحوقه بالملأ الأعلى.

ولكل مرحلة مايميزها من خصائص و معطيات تتناسب مع الوضع آنذاك.

نعود لموضع البحث: خطبته في مكة ـ كما أسلفنا ـ هي خطاب ممتد غير محدود بمكة أو بالحجيج، بل هو خارج حدود الزمان والمكان.

يذكر الشيخ الآصفي أن هذه الخطبة عجيبة في لهجتها، عجيبة في مضامينها ودعوتها، وهي تتضمن الاستنصار والترغيب والتزهيد والدعوة والرفض.

لنتأمل في بعض تعبيراته” عليه السلام” فبعد أن يحمد الله: «الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله» يقول: «خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة»، لهجة غريبة خلاف المألوف في خطابات الثائرين وطالبي الاصلاح؛ لأن أمثال هؤلاء يحرصون على إغراء الناس بما يحققونه من مكاسب وانتصارات، ويعدونهم بالحصول على الملك والسلطان وتحقيق الأهداف وإنجاز المهمات، وحين ننظر في تراكيب هذا الخطاب ونستوحي دلالتها نجد أن الإمام ينعى نفسه ويتكلم بلغة الموت والشهادة والحزن فيجرح القلوب!؟ سؤال ينقدح في الذهن: ما السبب الذي دفع الإمام إلى بناء اُسلوب خطابه بهذه الطريقة، وخصوصاً في هذا الوقت الذي أعلن فيه ثورته على الظلم والظالمين وعزم على الخروج إلى العراق؟! لماذا يتحدث عن الموت وهو في صدد دعوة الناس إلى تأييد مسعاه في استعادة الحق المغتصب؟! ألا تعد هذه الطريقة مثبطة للناس بدل أن تكون محفزة؟ نقول: لا، على العكس من ذلك فقد كان خطابه مليء بالمحفزات ـ كما سيأتي بيانه ـ . الإمام عليه السلام حين يتكلم عن الموت يرسمه كلوحة زاهية الألوان، يقول هو كالقلادة في الإحاطة والجمال، أما الإحاطة فهذه حقيقة لا مفر منها: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾، وبينما الجمال نستشفه من ذكره للفتاة، أليست الفتاة تلبس القلادة لغرض التجمل والتزين بها كذلك هو الموت جمال؛ لذلك يذكرون أن الحسين عليه السلام في العاشر من المحرَّم كان كلَّما اشتدَّ عليه الأمر في كربلاء واقترب من الشهادة سكنَتْ نفسه، وهدأَتْ جوارحه، وأشرقَ لونُه نوراً وبهاءً.

يتبع…

الكاتب الادارة

الادارة

مواضيع متعلقة