الإنابة ـ 3

img
  • وفي ثباته على المبدأ: فإنها صفة بارزة من صفاته×، وخلقاً أصيلاً من أخلاقه، فعندما أخبره عمّه بما ستفعله قريش قال: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

فلما رأى عمّه عزمه الصادق وثباته الراسخ في المضي في طريق الدعوة غير مكترث بأحد ولا عابيء بإنسان، ناداه وقال له: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبداً، ثم أنشد:

و الله‏ لن‏ يصلوا إليك‏ بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك و قر منه عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي *** ولقد صدقت و كنت ثم أمينا
وعرضت ديناً لا محالة أنه‏ *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا([1])

ولو لم يكن لبنينا إلا هذا الموقف لكفاه على مدى الزمان وتعاقب الأجيال، فهو دليل على ثبات العقيدة وقوة الإيمان.

  • وفي حسن سياسته: حين قسّم غنائم حنين في قريش وأعطى للأنصار شيئاً قليلاً، فغضب قوم الأنصار لذلك وبلغ رسول الله ذلك، فنادى فيهم فاجتمعوا وقال لهم: «إني سائلكم عن أمر فأجيبوني». فقالوا: قل يا رسول الله‘. قال: «ألستم كنتم ضالين فهداكم الله بي؟» فقالوا: بلى والله، فلله المنة ولرسوله. قال: «ألم تكونوا قليلاً فكثّركم الله بي؟» قالوا: بلى، فلله المنة ولرسوله. قال: «ألم تكونوا أعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟» قالوا: بلى، فلله المنة ولرسوله. ثم سكت النبي‘ هنيئة ثم قال: «ألا تجيبوني بما عندكم». قالوا: بم نجيبك فداؤك آبائنا وأمهاتنا، قد أجبناك بأن لك الفضل والمن والطول علينا.

قال‘: «أما لو شئتم لقلتم: وأنت قد كنت جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمناك، وجئتنا مكذباً فصدقناك». فارتفعت أصواتهم بالبكاء، وقام شيوخهم وساداتهم إليه وقبّلوا يديه ورجليه ثم قالوا: رضينا بالله وعنه وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا بين يديك، فإن شئت فاقسمها على قومك، وإنما قال من قال منا على غير وغر في صدر، وغل في قلب، ولكنهم سخطاً عليهم وتقصيراً لهم وقد استغفروا في ذنوبهم، فاستغفر لهم يا رسول الله.

فقال النبي‘: «اللهم اغفر للإنسان ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الانصار. يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاة والنعم وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول الله‘؟» قالوا: بلى، رضينا. قال النبي‘ حينئذ: «الأنصار كرشي وعيبتي، لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعبنا لسلكت شعب الأنصار، اللهم اغفر للأنصار».([2])

  • وعن كرمه: فإنه يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقد جاءه رجل فسأله فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة([3]).
  • وعن زهده: يقول عبد الله بن مسعود: دخلت على الرسول‘ وقد قام على حصير، وقد أثر في جنبه الشريف، فقلت: يا رسول الله‘، لو اتخذنا لك وطاءً تجعله بينك وبين الحصير يقيك منه. فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»([4]). وهو القائل: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً»([5]).

وقد ناولت فاطمة÷ النبي‘ كسرة من خبز الشعير فقال لها÷: «هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام»([6]).

ولم يكن رسول الله‘ زاهداً لفقر أو ضيق يد أو قلة طعام وإنما أراد بذلك أموراً أهمها:

أولاً: أن يعلّم الأجيال المسلمة بزهده معنى التعاون والبذل والايثار.

ثانياً: أراد أن تتأسى الأجيال المسلمة به بالعيش الكفاف القنوع؛ لكي لا ينشغلوا عن إعلاء كلمة الله.

ثالثاً: أراد أن يفهّم الآخرين أنه لم يرد من دعوته جمع المال، ولا الدنيا الزائلة، وإنما أراد إلتماس الأجر من الله تعالى. قال تعالى: ﴿وَيا قَومِ لَا أَسْأَلُكُم عَلَيه مَالاً إن أجْري إلّا عَلى الله﴾ قال تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23].

فهل حفظوا ذريته؟!

____________________

([1]) مناقب آل أبي طالب (لإبن شهر آشوب) 1: 53. البداية والنهاية 3: 56.

([2]) بحار الأنوار 21: 159.

([3]) السنن الكبرى (للبيهقي) 7: 19، وفيها: «عن أنس».

([4]) بحار الأنوار 70: 68/ 35.

([5]) كنز العمال 6: 490/ 16673.

([6]) مسند أحمد 3: 213.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة