حول الإنسان/ الاُذن (31)

img

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾([1]).

القلوبُ جمعُ قلبٍ وقد تقدّم الكلام عليه، والأعين جمع عين وسيأتي الكلام عنها. والآذان: جمع اُذن، وهي آلة السمع عند الإنسان وغيره. والكلام هنا عليها، وهي من الجوارح المثنّاة في الإنسان وأكثر الحيوان؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾([2]).

أمّا جمعها فآذان كما تقدم، قال تعالى في الآية الكريمة التي أخبر بها عن إبليس: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ([3]). أي فليقطعُنّ آذان الأنعام علامةً على وقفيّتها على الاصنام، وتحريمها عليهم وعلى جميع الأنام.

والأذن عند الإنسان كثيرةُ الأجزاء؛ بحيث يصعب تصوّرها إلّا برؤيتها مشرّحة، كما يفصّلها علماء التشريح. وهي مركّبة من ثلاثة أجزاء:

الاُذن الخارجية الظاهرة: وهي هذه الاُذن البارزة المكوّنة من الصفيحة الغضروفيّة، وهي التي تمسك باليد، ومن القناة السمعية وهي قناة تحسّ وتمسّ بالأصبع الصغير، وهي التي تمتدّ داخل العظم الصدغي، وعلى جانبيها عدّة ثقوب تنفتح فيها قنوات متّصلة بغددٍ تفرز دهناً ثخيناً أصفر يسمى «الصملاخ»، وهو ضروري لصحّة الاُذن، وإذا أدّى وظيفته خرج إلى الخارج، فيرفعه الإنسان بإصبعه أو بشيءٍ آخر.

الاُذن المتوسّطة: وهي منفصلة عن الاُذن الظاهرة بغشاء طبلة الاُذن، وهو غشاء شفاف تحته صندوق ضيّق يتّصل بالاُذن الخارجية بواسطة قناة معدّة لتوصيل الهواء من الخارج إلى باطن صندوق الطبلة. وفي عمق ذلك الصندوق فتحتان متّصلتان بالاُذن الباطنيّة.

الاُذن الباطنيّة: وهي الجزء النهائي من الاُذن، والمكونة من دهليز عظمي تنفتح فيه قنوات مملوءة بسائل من نوع السائل المذكور في الاُذن الأولى، وبجانب تلك القنوات عضو متّصل بصندوق الطبلة التي في الاُذن الثانية، وفي هذه الاُذن الباطنيّة تتوزّع فروع العصب السمعي: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ([4]).

ومن كلمات أمير المؤمنين× القصيرة قوله: «اعجبوا لهذا الإنسان؛ ينظر بشحمٍ، ويسمع بعظمٍ، ويتنفّس من خرمٍ»([5]). ويعني بالعظم الاُذن الباطنيّة.

وقد أخبرت الآية الكريمة التي ذكرناها في أول الموضوع أن الاُذن هي جارحة السمع؛ لأنها تقول: ﴿لَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾، فكأنها تقول: إن عادة من له اُذن أن يسمع، ولكن هؤلاء على عكس ما هو معروف ومألوف؛ فإن ﴿لَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ ليس معناه أن الصوت لا يصل إلى آذانهم، بل معنى ذلك أن الكلام لا يصل إلى عقولهم وأفهامهم. بل حتى لو وصل الكلام إلى عقولهم وأفهامهم فإنهم يتمرّدون على حكم العقول والأفهام، فكأنهم لم يسمعوا شيئاً، فهم كما قال الله سبحانه عنهم: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ([6]).

وقد أخبر الله سبحانه عنهم أنهم قالوا لرسول الله‘: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ وهو ثقل السمع أو ذهابه، ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ([7])، أي فاعمل ما شئت لنفسك فإننا عاملون ما نشاء لأنفسنا. وكانوا يتواصون فيما بينهم ويقول بعضهم لبعض ما أخبر به الله عنهم، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ([8])، أي قابلوا هذا القرآن بالتصفيق، والتصفير، ورفع الأصوات؛ حتى لا ينفذ إلى أعماقكم، ولا يصل إلى من سواكم.

فبهذا وأمثاله كانوا يحاربون نفوذ القرآن إلى قلوبهم وقلوب من سواهم، روي في كتب السيَر أن الطفيل بن عمرو الدوسي قدم مكّة ـ وكان شريفاً في قومه، شاعراً نبيلاً ـ فخشيت قريش أن يلقى رسول الله‘ فيتأثّر بدعوته أو يسمع تلاوته، فيتأثّر بقرآنه، فأقبلوا عليه يخوّفونه منه ويقولون: احذر أن تسمعه؛ فإن له كلاماً كالسحر يفرّق به بين الرجل وأبيه، والمرء وزوجه، والأخ وأخيه. وما زالوا به حتى حشا اُذنيه بالقطن خوفاً من أن يسمع كلام رسول الله‘، فلما جاء إلى الكعبة وجده يصلّي‘، فسمع شيئاً من تلاوته على الرغم ممّا في اُذنيه.

يقول: فسمعت كلاماً حسناً، فقلت: واثكل اُمي، والله إني لرجل لبيب شاعر أديب لا يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول؛ فإن كان حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته؟ فمكثت حتى انصـرف إلى بيته فتبعته حتى دخل بيته، فدخلت خلفه وقلت له: يا محمد، إن قومك خوّفوني أمرك حتى سددتُ اُذنيّ بالكرسف؛ لئلّا أسمع قولك، ولكنّ الله شاء أن أسمع، فسمعتُ قولاً حسناً، فاعرض عليّ أمرك. فعرض‘ الإسلام عليه، وتلا عليه شيئاً من القرآن، يقول: فوالله ما سمعت قولاً أحسن منه ولا أعدل منه.

ثم أسلم وقال: يا رسول الله، إني امرؤ مطاعٌ في قومي، وإني راجعٌ إليهم وداعيهم إلى الإسلام. ولمّا رجع إلى أهله دعا أباه واُمه وزوجته إلى الإسلام، فأسلموا، ودعا قومه فأبوا، وناله منهم بعض الأذى، فرجع إلى رسول الله‘ مغضباً، وقال: يا رسول الله إن قومي قد غلبني عليهم الزنا والربا، فادعُ الله أن يهلكهم. فرفع النبي‘ كفّيه الشريفتين إلى السماء وقال: «اللهم اهدِ دوساً، وائت بهم مسلمين».

يتبع…

الهوامش:

([1] ) الاعراف: 179.

([2] ) لقمان: 7.

([3] ) النساء: 119.

([4] ) المؤمنون: 12ـ 14.

([5] ) نهج البلاغة/ الحكمة: 8.

([6] ) لقمان:7.

([7] ) فصلت: 5.

([8] ) فصلت: 26.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة