في ظلال السيرة النبوية

img

حين نتحدث عن السيرة النبوية المحمدية، فإنما نتحدث عن الانعطافة التاريخية الكبرى في حياة البشرية. والانعطافة التي أرادها الله. وهيأ لها الأسباب. منذ بدء البشرية حيث خلق آدم. إلى أن عقدت نطفة النبي محمد (ص) في رحم طاهر. حفه الله بألطافه. وأحاطه برحمته ـ حتى بزغ ذلك الجنين ليستقبل البشرية برحمته ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ في يوم أصبح بداية لتساقط الأصنام المادية والبشرية، ولاخضرار الأرض بنور الهداية المحمدية.

ومن جهة أخرى… الانعطافة التي قيّمت الإنسان في مسيرة حياته. وأعادت له كيانه وشخصيته وعرفته بدوره في الحياة. الدور الذي يعلو ويسمو على كل كائنات الوجود. ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.

بعد أن كان الإنسان لا يعلو قيمة عن بقية المخلوقات، بل لا يساوي أو حتى يداني في كثير من الأحيان الدابة التي يقودها. لأن المقاييس كانت من صنع البشر.. أما هذه الانعطافة فقد وجهت الناس للمقاييس الإلهية. فجميعهم عبّاد لرب واحد، وانتماؤهم بالأصل لأب واحد: “كلكم لآدم وآدم من تراب”. فلم تكن القوة أو المال أو الجمال أو النسب مقاييس للتفاضل والتميز بل كانت القيم الإيمانية المادية والمعنوية ـ المتأتية من الأفعال الفردية. القائمة على أساس العقيدة الإسلامية أساساً للتفاضل بين الناس. وهكذا في جميع شؤون الحياة التي يمارسونها ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ وفي الحديث القدسي: (يا محمد قل لمن يفتخر على الناس بماله ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ يا محمد قل لمن يفتخر بالجمال ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾، ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، ويا محمد قل لمن يفتخر بالعشيرة والأولاد والأرقاب: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾، و﴿وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ﴾). وقد خطب رسول الله (ص) ذات مرة في الناس فقال: (إنما أهلك الذين قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

هكذا أعادت تلك الانعطافة المحمدية إلى الإنسان كرامته..

ونشلته من جاهليته التي يصفها جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة. أيها الملك (كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفاحشة، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي  منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة الأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً).

نعم.. هكذا هي الانعطافة الربانية التي حملت الإنسانية الصادقة مقياساً لتقييمها، والأخلاق العالية نبراساً لمسيرتها واستقامتها. حتى سادت تلك الدعوة المباركة قي أقطار الجزيرة العربية وخرقت حجب الرمال والتلال والهضاب؛ لتغزو كافة أقطار العالم بفكرها وأخلاقها وقوتها ـ وإذا بتلك الفئة القليلة تتحدى أعظم قوتين في عصرها بعد أن تغلبت على قريش وأحلافها ـ الفرس والروم. اللتين كانتا تتقاسمان العالم الشرقي وتتحكمان في خيراته وثرواته. فجعلت تلك الانعطافة من سكان الجزيرة العربية الكيان السياسي الذي يوحد صفوفهم، ويجعلهم قادرين على مواجهة أي من تلك الدولتين وإثبات وجودهم أمامهم.

وفي يوم الأحزاب وحيث كان المسلمون يحفرون الخندق. وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضتهم وهم يحفرون، فأعجزتهم ولم تصنع بها المعاول شيئاً. فأخذ رسول الله المعول وضرب الصخرة ضربة صدعتها، وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة، فكبر رسول الله (ص)، ثم ضربها ضربة ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول، وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء ما وراء المدينة. فكبّر رسول الله (ص) وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية. ثم أخذ بيد سلمان وصعد من الخندق فقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط. فالتقت رسول الله (ص) إلى القوم وقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ فقالوا: نعم يا رسول الله… لقد رأيناك تضرب فيخرج البريق كالموج فرأيناك تكبّر فكبّرنا. ونرى غير ذلك. فقال: صدقتم. لقد أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى. واخبرني جبريل بانّ أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها. وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء. وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها).

وبذلك أصبح المؤمنون في عصر الانبعاث الإسلامي الأول.يمثلون التجسيد الكامل للرسالة الإلهية في الأرض؛ لإخلاصهم وتحملهم لمسؤولياتهم. ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ أما السر في نجاع دعوة النبي (ص) بعد تأييد الله سبحانه وتعالى المطلق لها فيكمن في أعظم حقيقتين اثنتين اتسمت بهما شخصية نبينا الأكرم، وهما:

أولاً أخلاقه:

إضافة إلى أن الرسالة المحمدية قد أوجزت كل تعاليمها، والتي ضحى رسول الله (ص) من أجلها بكلمتي “مكارم الأخلاق”: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فقد اتسم رسول الله (ص) بهذا السياج العظيم حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى في حقه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ

فلقد كان رسول الله (ص) معروفاً في قومه منذ نشأته بالصادق الأمين اللتين هما خلاصة الأخلاق الإسلامية الحقة. (لا تنظروا إلى كثرة قيام الرجل وقعوده إلى صدق حديثه وأداء أمانته). ولقد كان رسول الله (ص) معروفاً في قومه قبل إعلان الرسالة الصدق وأداء الأمانة. ومضت عليه أربعون سنة وهو مثال في هاتين الخصلتين، حتى أن كل رجل كان يقصد الخروج من مكة، كان يدع أمواله لدى النبي (ص) دون رجال عشيرته، وحينما أعلن رسالته جمع رجال قريش حول جبل “الصفا” قائلاً لهم: (يا بطون قريش: إنّ الرائد لا يكذب أهله، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم تصدقون؟! فأجابوا بصوت واحد: نعم.. نعم.. ما جربنا عليك كذباً).

لقد كان (ص) في أخلاقه ينبوعا زاخرا يتدفق بالفضائل. ولا غرابة في ذلك وهو المصطفى من الله لحمل أعظم رسالة إلى البشرية. وهو رحمة الله إليهم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾. أجل كان (ص) يقول لأصحابه: (لا تطروني كما اطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله). ولذلك لم يكن ليميز نفسه عن غيره.. كان يبدأ الناس بالسلام، ويسبق أصحابه بالمصافحة. ويزوره وفد قدم إليه من النجاشي ملك الحبشة، فيقوم (ص) يخدمهم مبالغا في خدمتهم، فقال له بعض أصحابه: يكفيك ما قدّمت لهم من خدمة يا رسول الله. فقال (ص): (إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم).

بل كان إذا جلس بين أصحابه لا يعرف أيهم محمد لاختلاطه بهم، فلمّا كثر الوافدون الذين كانوا يسألون عنه أمام عينيه قائلين أيّكم محمد، صنع له دكة من طين.. وكان يقول: إنما أنا عبد).

وفي طريقه مع جمع من أصحابه إلى يثرب. مروا بامرأة خزاعية اسمها عاتكة وتكنى بأم معبد، سألوها عن لحم وتمر ليشتروا منه طعاماً لهم، فلك يجدوا عندها شيئاً من ذلك، وكان العام عام جدب، فرأي الرسول (ص) شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟

قالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم.

قال(ص): هل بها من لبن؟

قالت: هي أجهد من ذلك.

قال (ص): أتأذنين لي أن أحلبها؟

قالت: نعم، بابي أنت وأمي إن وجدت بها حلباً.

فدعا النبي (ص) ومسح ضرع الشاة، وذكر اسم الله تعالى، ثم قال: (اللهم بارك لها في شأنها)، فتفاجت ودرت وأجزت. فدعا النبي (ص) بإناء يرفض الرهط، فحلب فيه حتى امتلئ فسقاها وسقى أصحابه وشرب هو، وقال (ص): (ساقي القوم آخرهم).

ثم حلب في الإناء ثانية حتى امتلأ وتركه عندها وارتحلوا يحثون السير إلى يثرب.

ويعجز الإنسان عن التعبير الكامل لأخلاق النبي (ص)، وقد احتج عليه الإمام علي (ع) لذلك احتجاجا لطيفاً. بأن الله يقول في كتابه: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ وفي آية أخرى: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾. فالحياة الدنيا مع أنها قليلة عند الله فإنها لا يمكن الإحاطة بها وإحصاء النعم فيها. فكيف بأخلاق النبي الذي يقول فيه الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.. فإذا لم يمكن إحصاء القليل فكيف يمكن إحصاء العظيم؟

ثانيا مبدئيته:

إنّ أهم ميزة امتاز بها الرسول (ص) كقائد هي المبدئية التي اتسمت بها في كل تصرفاته، وتطبعت بها سيرته وحياته. فها هي قريش تهدد أبا طالب وتنذره الحرب؛ إن هو لم يردع محمداً عن آلهتهم. وعرضوا عليه أن يملكوه عليهم، ويشاطروه أموالهم ويقدموا إليه ما يشاء إذا تراجع عن موقفه، حتى جاءه أبو طالب وقال له يا ابن أخي: ابق علي وعلى نفسك، ولا تحملّني من الأمر ما لا أطيق. فبدأ لرسول الله (ص) أن يري عمه قوته وثباته على مبدئه لدعم موقف عمه المتصلب إلى جانبه، حتى لا يضعف عن نصرته، فقال له رسول الله (ص): (يا عماه والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

وها هم بنو عامر يوافقون على عرض رسول الله (ص) عليهم بالإسلام، شريطة أن يكون الأمر لهم بعد رسول الله (ص) فيما أطاعوه، ولكنه يرفض ذلك ويعلمهم أن الله يضع الأمر حيث يشاء.

الكاتب الشيخ عبد العال العبد العال

الشيخ عبد العال العبد العال

مواضيع متعلقة