حول الإنسان (23)

img

قالوا: وبوجود الروح والنفس للإنسان يحصل الجمع بين قول من قال: إنها تتكون مع تكوِّن الجسد وتفنى بفنائه، وبين قول من قال: إنها مخلوقة قبل الجسد وباقية بعده؛ إذ يكون من الممكن أن تكون الروح هي التي تتكون مع الجسد ولا تفارقه إلّا بالموت، ولا عجب حتى لو فنيت بفنائه وعادت بعودته، وأن النفس هي التي خُلقت قبل الجسد، ثم هبطت إليه بعد أن ولجته الروح وبقيت تروح عليه تارةً وتغدو عليه تارةً إلى أن وافاه الموت، فبقيت بعده خالدة. وهذا هو رأي الرئيس ابن سينا المتوفى بهمدان سنة (428)هـ، فقد قال&:

هبطت إليك من المحلّ الأرفعِ
محجوبةً عن كلّ مقلة عارف
وصلت على كره إليك وربما
أنفت وما ألفت فلما واصلت
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت
تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى
فغدت تغرّد فوق ذروة شاهقٍ
وتعود عالمةً بكلّ خفيّة
فكأنها برقٌ تألّق بالحمى

 

ورقاء ذات تعزّز وتمنّعِ
وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ
كرهت فراقك وهي ذات تفجّعِ
ألفت مجاورة الخرابِ البلقعِ
ومنازلاً بفراقِها لم تقنعِ
من ميم مركزها بذات الأجرعِ
بين المعالم والطلول الخضّعِ
بمدامعٍ تهمي ولمّا تقلعِ
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسعِ
والعلم يرفع كلّ من لم يرفعِ
في العالمين فخرقها لم يرقعِ
ثم انطوى فكأنه لم يلمعِ([1])

ولكنّ العلماء وإن اختلفوا في هل إن النفس والروح شيء واحد أم هما شيئان، فقد اتّفقوا على أنهما معاً من العالم المجهول، وهو عالم الأمر ـ أي عالم ما وراء المادة ـ الذي لا يعلم حقيقته إلّا خالقه. وأكثر ما علمه الناس عنها أنها من جوهر الحياة فإذا انفصلت من الجسد انفصلت منه الحياة، وأنها من البقاء فإذا انفصلت من الجسد بلي وفني، وأنها من النور فإذا انفصلت ممن الجسد ذهب نور بصره وقلبه، وأنها من الطيب فإذا انفصلت من الجسد نتن، وأنها من العلم فإذا انفصلت من الجسد ذهب علمه، وأنها من العلوّ فإذا انفصلت من الجسد ذهب علوّه فاُنزل في التراب.

كما أن ممّا علموه عنها أن علاقتها بالجسد علاقةٌ خارجية، فتعلّقها به تعلّق غير مباشر، فهي بالنسبة للجسد أشبه شيء بالجهاز الإلكتروني الذي نُشغل به السيارة أو التلفزيون أو المكيف وأمثالها، ونحن على بُعد منها، وأنها ليست كما يقول بعضهم من أنها متداخلة في الجسد كتداخل الماء في الشجر، والنار في الحجر، والزيت في الزهر. فهذا أكثر ما عرفوه عنها، أمّا ما هي حقيقتها، وما هي كيفيتها وماهيتها، فهذا شيء لا يعلمه إلّا الله جلّ وعلا، حتى قيل: إن من معاني قول الإمام أمير المؤمنين×: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»([2]) أن من عرف نفسه أنها لا تعرف حقيقتها فقد عرف ربّه أنه لا تُعرف حقيقته؛ لأنه لا يعلم أحد كيف هو إلّا هو.

أو بعبارة اُخرى أنه كما لا يمكن الوصول إلى معرفة النفس، فكذلك لا يمكن الوصول إلى معرفة الربّ جل وعلا. قال ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفّى سنة (655) هجرية:

قد حار في النفس جميع الورى
وبرهن الكلّ على ما ادّعوا
من جهل الصنعة عجزاً فما

 

والفكر فيها قد غدا ضائعا
وليس برهانهُمُ قاطعا
أجدره أن يجهل الصانعا([3])

ونُقل عن أمير المؤمنين× أنه قال: «الروح في الجسد كالمعنى في اللفظ»([4]).

قال الصفدي المتوفى بدمشق سنة (764): ما رأيت مثالاً للروح أو للنفس أحسن من هذا.

وقد استدلوا على وجودها بعدّة أشياء، منها أنها تعرف الأشياء وتعرف أنها تعرفها، والمعرفة ليست من خواصّ المادة.

ومنها أن المادّة إذا انتقشت عليها صورة، فإن تلك الصورة تبقى واضحة عليها ما لم تنتقش عليها صورة اُخرى، فإذا حصل ذلك حصل التشويش على الصورة الاُولى؛ فإمّا أن تنعدم إحداهما وتثبت الثانية، أو تكون الصورتان مشوّشتين، وهكذا الشريط الصوتي. والحال أن النفس ليست كذلك فإنها تنتقش فيها أنواع المعارف والمعلومات دون أن يؤدي ذلك إلى شيء من التشويش في المعلومات الاُولى أو محوها، بل يزداد صاحبها فهماً كلّما ازداد علماً.

ومنها أن الإنسان يرى نفسه في عالم الرؤيا في أماكن بعيدة في حال أن جسمه ثابت على فراشه؛ فلابد أن يكون الذي ذهب إلى المكان البعيد شيئاً غير الجسم، وليس هناك إلّا الروح.

ومنها أننا نحس أن هناك شيئاً يحمل البدن على ما يكره، كالامتناع من الأكل والشرب والنوم والنكاح، وغير ذلك من الأشياء التي يحتاجها البدن، فمن هو هذا الذي يحمل الأبدان على الامتنع منها؟

كما أنهم استدلّوا على بقائها بعد الموت بعدّة أشياء أيضاً، منها أن الميت يُرى في النوم بعد موته، فمن هو هذا الذي يرى؛ أهو الجسم، أم الروح أم النفس؟ بل قال بعضهم: إنها قد تُرى في اليقظة، وقد ذكر أحمد أمين في كتابه النافع (التكامل في الإسلام) أن رجلين هاجرا إلى «استراليا» للتجارة في الأغنام، فازدهرت تجارتهما في مدّةٍ وجيزة، وأصبحا ثريّين إلّا إن أحدهما فُقِدَ بعد أيام قلائل، وجعل صاحبه يفتّش عنه فلم يقع له على خبر.

وفي يوم من الأيام وهو راجع إلى بيته شاهد رفيقه المفقود جالساً على ضفاف بركة من الماء على بعد منه، والكآبة تعلو وجهه، فلما أسرع إليه وجده يتضاءل كلمّا قرب منه، ولما وصل إلى المكان الذي هو فيه لم يجد له أثراً، ولمّا ابتعد عن المكان بدا له من جديد وهو يشير بيده إلى البركة، ولمّا قرب منه جعل يتضاءل حتى انعدم أثره.

يقول: فعلمت أنه لابدّ أن يكون في البركة شيء يريده، ففتّشت في البركة وإذا بجثته ملقاة في قعر البركة مغطاة بشيء من أوراق الشجر ومعه الفأس التي قُتِل بها، يقول: فوارى الجنازة وجعل يفتّش عن القاتل حتى عرفه فقُتل بعد إقراره بالقتل([5]).

وهذا من مصاديق ما جاء في كتاب (حقّ اليقين) وغيره من الكتب المعتبرة من أن الروح تجسم بعد الموت، أو توضع في جسم مثالي لصاحبها وهو الأشهر.

فقد روي عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبدالله× فقال: «ما تقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم؟». قلت: يقولون: في حواصل الطيور خضر. فقال: «سبحان الله! المؤمن أكرم على الله من ذلك، فإذا قبضه الله سبحانه صيّر تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصور التي كانت في الدنيا»([6]).

وعنه× انه قال: «إذا مات الميت، اجتمعوا له يسألونه عمّن مضى وعمّن بقي»([7]).

وفي كتاب (حقّ اليقين) عن الأصبغ بن نُباتة أن أمير المؤمنين× خرج من الكوفة، ومرَّ حتى أتى الغريّين فجازه، فلحقناه فوجدناه مستلقياً على الأرض بجسده ليس تحته ثوب، فقال له قنبر: يا أمير المؤمنين، ألا أبسط ثوبي تحتك؟ فقال: «لا، هل هي إلّا تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟». فقال الأصبغ:

يا مولاي «تربة مؤمن»قد عرفناها؛ كانت أو تكون، فما «مزاحمته في مجلسه»؟ فقال×: «يابن نباتة، لو كشف لكم لرأيتم أرواح المؤمنين في هذا الظهر حلقاً يتزاورون ويتحدّثون، يا أصبغ، في هذا الظهر روح كلّ مؤمن، وبوادي برهوت نسمة كلّ كافر»([8]).

وعن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا الحسن الأول× عن الميت: يزور أهله؟ فقال: «نعم». قلت: في كم يزور؟ قال: «في الجمعة، وفي الشهر، وفي السنة، على قدر منزلته»([9]).

وعن أبيه الصادق× أنه قال: «إنّ المؤمن ليزور أهله، فيرى ما يُحبّ ويُستر عنه ما يكره، وأنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويُستر عنه ما يُحبّ»([10]).

يتبع…

_________________________

([1]) عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء: 446.

([2]) مصباح الشريعة: 13.

([3]) شرح نهج البلاغة 13: 53.

([4]) مستدرك سفينة البحار 4: 217.

([5] ) التكامل في الإسلام3: 121.

([6] ) حقّ اليقين2: 64 باختصار، وانظر الكافي3: 245/ 4742.

([7] ) الكافي3: 244ـ 245/ 4740.

([8] ) حق اليقين2: 66، وانظر المحتضر16، بحار الأنوار6: 243/ 65.

([9] ) الكافي3: 230/3.

([10] ) الكافي3: 230/ 4703.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة