شرح دعاء الصباح 31

img

الأصلُ الرّابعُ: «الكشف» بالقسمة الأوّلية قسمان: صوري، ومعنوي.

والصُّوريّ، ما يحصل بطريق الحواس الخمس. وينقسم الصُّوريّ قسمةً ثانيةً بحسب المحسوسات الخمسة:

فما يكون بطريق الإبصار، كرؤية المكاشف صُور الأرواح عند تمثّلها.

وما يكون بطريق السّماع، كسماع النبيّ| كلمات فصيحةً بليغة، ومنه ما يسمّى «نقراً في الأسماع» الحاصل للمكاشفين.

وما يكون بطريق الشمّ، كالتنشّق بالنّفحات الإلهيّة كما قال النبيّ|: «إنَّ لله في أيّامِ دَهرِكُم نَفَحات، ألا فَتعرَّضُوا لَها»([1]).

وقال|: «إنّي أجِدُ نَفَسَ الرَّحمنِ مِن قبَلِ اليَمَنِ»([2]).

وما يكون بطريق الذّوق، كقوله|: «أبِيتُ عِندُ رَبّي يُطعِمُني وَيَسْقيني»([3]).

وما يكون بطريق اللّمس، كقوله|: «وَضَعَ الله تعالى كفّه بَينَ كِتفَيَّ، فَوَجَدْتُ بَردَها بَينَ ثَدييَّ»([4]).

وهذه المكاشفات قد تنفرد وقد تجتمع([5])، وكلّها تجليّات أسمائيّة. فإذا تجلّى الله تعالى على السّالك المرتاض باسمه «البصير» يرى ما لا يرى غيره، وإذا تجلّى عليه باسمه «السّميع» يسمع ما لا يسمعون. وهذه المسموعات، وهذه المبصرات كلّها هورقليائية حقّة عيانيّة([6])، ويصير المشاعر الظاهرة تابعةً منطوية تحت تلك المشاعر النوريّة المذكورة في الأصل الثاني، فإنّها صارت بالفعل، وبارزةً بعد ما كانت بالقوّة وكامنة، وكذا الشهودات الثلاثة الباقية عن تجليّات اسمه تعالى «المُدرِك»؛ إذ بمقتضى التوقيف الشّرعي لم يُطلق عليه تعالى «الشامّ» و«الذّائق» و«اللّامس»؛ لئلّا يوهم التجسّم.

وأنواع الكشف الصّوري قد تتعلق بالأمور الدّنيويّة ولا مبالاة لأهل السّلوك بها، وقد يتعلّق بالاُمور الاُخرويّة وهي المعبّرة عندهم. وكما أنّ الرّؤيا يحتاج إلى التّعبير كثيراً مّا، كذلك الصّور المشهودة الكشفيّة في اليقظة يحتاج إلى التأويل، فليعرض على الكامل المكمّل إن لم يفهم نفسه المراد، سيّما ما يتعلّق بآفات النّفس وعاهاتها. وليكن السّالك يقظانَ([7]) عالي الهمّة؛ لئلّا يقف ولا يقع في شرك غنج الصّور ودَلالها، فمِنْ اُولي الهِمَم العالية مَنْ لا يلتفت إلى الكونين الصّوريين، ويخلع النعلين للوفود على فناء باب الله، وقرّةُ عينهم الفناء في جنابه، والمحو في مشاهدة جماله: ﴿مَن كان يَرجُو لِقاءَ الله فَإنَّ أجَل الله لآت([8]). ونعم ما قيل:

آن خيالاتى كه دام اوليا است

 

عكس مه رويان بستان خداست

والمعنويّ: ظهور المعاني الغيبيّة والحقائق العينيّة ومعرفة الكلّيات الوجُوديّة المجرّدة علماً حُضوريّاً، وهو من تجلّيات اسم الله «العليم الحكيم»([9]). وهو أيضاً ينقسم بحسب المراتب السنيّة للنّفس النّاطقة من القلب والروح والسّر والخفيّ والأخفى. والمكاشف في أيّ مقام يكون من هذه المقامات، يكون كشفه بحسبه في النوريّة وشدّة الظهور، ويُدعى كشفه بأسامي مختلفة؛ ففي مقام بـ«الحدس»، وفي مقام بـ«الإلهام»، وفي مقام بـ«النّور القدسي»، وفي مقام بـ«المشاهدة القلبيّة»، وفي مقام بـ«المشاهدة الرّوحيّة»، وقس عليه الباقي.

الأصل الخامسُ: الخواطر: ما يخطر بالبال. وقد مرّ ـ عند قوله×: «يا مَن قَرُبَ مِن خَواطِرِ الظُّنونِ» ـ تقسيمُ الخواطر إلى أربعة. والآن نقول: الخواطر: هي مبادئ الإشراق والرّغبات، وهي تصير بالتّصديق بالفوائد والثمرات: عزمات، وقصود، وإرادات، وهي تصير محرّكات ومبادئ للحركات في العضلات: وحينئذ يتحقّق الأفعال. ثمّ هذه الخواطر حادثات، وكلّ حادث لابدّ له من سبب، ومهما يختلف الحوادث دلّ على اختلاف الأسباب، لكنّ الاختلاف إن كان شخصيّاً كان باعتبار المادة ولواحقها، وإن كان نوعيّاً كان باعتبار اختلاف الفواعل. ولما كان اختلاف الخواطر نوعيّاً بحسب أنواع الخيرات والشّرور، كان اختلاف مباديها ذاتيّاً؛ فمهما رأيت استنارة فضاء البيت وحيطانه بنور النّار واسوداد الحيطان والسّقف بانظلام الدّخان، علمت أنّ سبب الاستنارة غير سبب الاسوداد؛ فكذلك لأنوار بيت القلب وظلماته سببان مختلفان.

فنفس الخاطر المحمود يُسمّى «نقر الخاطر» و«إلهاماً»، والخاطر المذموم يسمّى «وسواساً» و«هاجساً»، وسبب إلالهام يسمّى «مَلَكاً»، وسبب الوسواس يسمّى «نفساً». واللّطف الإلهي الّذي به يتهيّأ القلب لقبول الخاطر المحمود يسمّى «توفيقاً»، وما به يتهيّأ لقبول الخاطر المذموم يسمّى «خذلاناً»؛ فالوسوسةُ مثلاً ضدّ الإلهام، والشيطان مثلاً مقابل المَلَك، والخذلان مقابل التوفيق، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيء خَلَقنا زَوجَينِ([10])،  فإنّ كلّ ضدٍّ ندٍّ، وكلّ مقابل مماثلٌ من وجه. وهو الله الوتر الفَرد الّذي لا ضدّ ولا ندّ، ولا مخالف له، بل هو خالق الأضداد والأنداد، والمخالفات والمقابلات، وهو المتجلّي في كلّ المجالي والماهيّات.

إذا تمهّد هذه الأُصُول، فاعلَمْ أنّ المَلَك منه مجرَدّ روحاني، ومنهُ صُوريّ جسمانيّ، وكلّ منهما خارجيّ وداخليّ:

فالّروحانيّ الخارجيّ، كالعقول المجرّدة، والنفوس الكليّة.

والرّوحاني الدّاخلي، كالعقل النّظري، والعقل العملي، سيّما اللّذان بالفعل والملكات النوريّة([11]) العلميّة والعمليّة، ويُقرّبه أنّ الملك والملكة مادّتهما الحرفيّة واحدة، بل كلّ اعتقاد حقّ كمَلَك يدّل النّفسَ على الخير.

والجسمانيّ الخارجيّ، مثل الملائكة الجسمانيّة الّذين هم أُولو أجنِحَة. وقد أثبته النّقل، ولا امتناع في العقل.

والجسمانيّ الدّاخلي، مثل القوى الجسمانيّة، ولكن باعتبار وجوهها النّورانيّة إلى الله تعالى. وبعبارة اُخرى: القوى والطبائع الدّهريّة لا الزّمانيّة، وقد مرّ أنّها ـ بنظر أدقّ وأنور ـ أيدٍ عمّالة لله تعالى، ودرجات فاعليته.

يتبع…

____________________

([1]) التوحيد: 330. أمالي المفيد: 206.

([2]) الإيضاح: 14. كشف الخفاء 1: 217 / 659.

([3]) كتاب الموطأ 1: 301. تحفة الفقهاء 1: 344.

([4]) مسند أحمد 1: 368. سنن الدارمي 2: 126.

([5]) وكذا قد يجتمع الصوريّ مع المعنويّ كما في الأنبياء والكاملين، وقد ينفرد المعنويّ عن الصّوري كما في كثير من العلماء بالحقائق؛ لأنّ تصوير الحقائق بكثرة الأمثلة وإن كان من العوالي إلاّ إنه أين الاتصال بالكليّات والاتّصال بالجزئيات؟! ويتحقّق شبهته في غير الكامل، وأين معرفة الحقائق وإدراك الرّقائق؟ نعم، لابدّ منه لصاحب الدّعوة، وأرباب الدّولة الحقّة، لكن مجدهم ليس بمجرّده، بل للتخلّق والتحقّق بالحقّ مشفوعاً بذلك، فالجامع له السيدودة العظمى؛ لأنّة ذو الرئاستين. منه.

([6]) أي لا بمجرّد التخيّل، كما يتوهّم من لا خبرة له. وكلّها صوريّة صرفة وليست ماديّة وإلّا لصادفها كلّ سليم الحسّ؛ لأنّ المحسوسات من البديهيّات، ولا سنخيّة لهم مع تلك الصّور الصّرفة بخلاف مشاعر الأنبياء والأولياء^؛ فلها السنخيّة:

پنج حسّى هست جز اين پنج حسّ   ***   آن چوز زرّ سرخ واين حسّ همچو مس

صحّت اين حس بجوئيد از طيب   ***   صحّت آن حس بجوئيد از حبيب

منه.

([7]) ولا تتيسّر اليقظة إلّا بمعرفة الله، فمن ذا الذي عرفه ورام منه بدلاً؟ كيف، وكلّ جمال وجلال ظل جماله وجلاله؟ وإذا لم يكن عارفاً به، ولم يكن يقظان به، كان محتجباً بالدّار والرّياض والنّعم، عن صاحبها:

خلاف طريقت بود كاوليا

 

تمنّا كنند از خدا جز خدا

والقصّة المنظومة في «أياز» من الشيخ «السّعدي» معروفة، فليعتبر. منه

([8]) العنكبوت: 5.

([9]) أي يعلم بعلم الله وحكمته ونوره، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾ (البقرة: 255). وهذه الحكمة غير الحكمة التي هي العلم بمفاهيم الأشياء مثل أن يعلم أنّ العقل موجود مجرّد، لا حالة منتظرة له، مكمّل النفوس، إلى غير ذلك من إدراك مفاهيم أحكام ذاته وصفاته. وأمّا المعتبر في هذه الحكمة التألهيّة، فهو أن يتخلّق ويتحقّق به. وبالجملة، تحصّل معرفة إنيّته وماهيّته، وقس عليه. منه.

([10]) الذاريات: 49.

([11]) المَلَك من المُلْك وله المالكيّة والتّسلّط. وكلّ صفة إذا صارت ملكة راسخة متجوهرة، ملكت بال الشّخص بحيث يقدر على آثارها بسهولة. فإذا كانت نوريّة تسدّده دائماً إلى الصّواب، وإذا كانت ظلمانيّة تقوده إلى النار: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: 6). فملكة الحرص مثلاً كروح نمليّ تدعوه إلى الأفعال النمليّة في عالم الطبيعة والدّنيا، وتتجسّم وتتشبّح بصور النّمال في البرزخ والنشأة الأخرى. ألاترى تسلّطها عليه من داخل بحيث إنها لا يوازيها تسلّط أفواج من خارج عليه، وقس عليها ملائكة الرحمة. والملكات النّورية ومبدئيتها لأفعال بهيّة وتظليلها لصور حوريّة وغلمانيّة وغيرهما في البرزخ والأخرى، وتسلّطها عليه وتسديها على الأقوال الحكميّة، وجودة الأفعال العدلية. فالعقلان البسيطان النظريّ والعمليّ كملكين مقرّبين ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ (ق: 17). والعقل الكليّ الفعّال يملي عليهما كما في الحديث: «وروح القدس يسددّنا إلى الصّواب»، ﴿وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾ (البروج: 20)، «وأنت مسددد للصّواب بمنك»، كما في الدّعاء. وملكيّتها إنما هي باعتبار جهاتها النورانيّة، وكون وجوداته مظاهر القدرة وإن كانت في جهة القهر. والخلاف في كون أصل  […] من الملك أو من الجن، يمكن توفيقه بهذا. منه.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة