حول الإنسان (22)

img

الروح

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾([1]).

تدل هذه الآية الكريمة على أن هناك من سأل الرسول| عن الروح: ما هي؟ وهل هي حادثة أو قديمة؟ فأمره الله سبحانه أنْ يجيبهم عنها بأنها من أمره جل وعلا، أي أنها من عالم الأمر وليست من عالم الخلق.

وقد يحصل من يسأل: هل إن رسول الله| لا يعلم من الروح أكثر من ذلك، أم إنه| يعلم أكثر من ذلك ولكنّه لم يُسمح له أن يُطلع الناس إلّا على هذا المقدار المعيَّن؟

الجواب: أن العلماء لا يستطيعون الجواب على هذا السؤال لا بالنفي وبالإثبات؛ وذلك لأن الرسول| له مقام أمانة السرّ عند خالقه جلّ وعلا، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى([2]). فقد استدلّ بعضهم بهذه الآية الكريمة على أن هناك سرّاً بين الله تعالى وبين حبيبه|؛ حيثُ إنه جلّ وعلا لم يقل: فأوحى إلى عبده كذا وكذا، بل قال سبحانه: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾.

ولعلّ ممّا أوحى إليه أن أعطاه من علم الروح أكثر ممّا أعطى غيره، فقد كلمه على بساط قدرته، حيث لا لوح ولا قلم، ولا جبرئيل ولا إسرافيل، قال: البوصيري&:

خفضت كلّ مقام بالإضافة إذ
وبتّ ترقى إلى أن نلت منزلةً

نُوديت بالرفع مثل المفرد العلمِ
من قاب قوسين لم تُدرك ولم تُرمِ([3])

وروي أن جبرئيل× قال له|: «لقد وطئت موطئاً لم يطأه أحدٌ قبلك؛ لانبيّ مرسل، ولا ملك مقرب»([4]).

ولذلك فإننا لا نعلم عن مبلغ علمه| عن الروح وغيرها، ولا نعلم نحن عنها إلّا ما علّمنا إيّاه عنها، وهي أنها من عالم الأمر لا من عالم الخلق؛ لأن عالم الخلق هو عالم المادّة، وعالم الأمر هو ما وراء المادّة، وقد أخبر عنها جلّ وعلا بقوله: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ([5]).

والإنسان من المخلوقات المركّبة من هذين العالمين: عالم الخلق، وعالم الأمر؛ فعالم الخلق هو عالم المادّة التي خلق الله منها الأجسام، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ([6]).

ولتكوين الأجسام من هذه المادّة ولتنقّلها في هذه الأطوار والأدوار مدّةٌ معينة، وغالباً ما تكون بالنسبة إلى الإنسان تسعة أشهر، وقلّما تزيد أيّاماً أو تنقص أياماً أو شهوراً، فيكون كما قال تعالى: ﴿حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾.

كما أن لتكوينها مكاناً معيّناً، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء﴾.

فهذا هو عالم الخلق، وقد علم الإنسان منه ما شاء الله له أن يعلمه.

وأمّا عالم الأمر وهو عالم الروح، فإنه عالمٌ مجهولٌ، فلا مادّة له، ولا مدّة ولا زمان، ولا مكان، وكل ما نعلمه عنه أنه حادثٌ عن أمر الله سبحانه، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. وقال السيد علي خان الحسيني في كتابه (رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين صفحة 272 الجزء الأول وقال بعض علمائنا المتأخرين أن المستفاد من الأخبار عن الائمة الأطهار^ أن الروح شبح مثالي في صورة البدن

قال وكذلك عرفوا المتألهون بمجاهداتهم وحققوا المحققون بمشاهداتهم فهو ليس بجسماني محض ولا بعقلاني صرف بل برزخ بين الأمرين ومتوسط بين النشأتين لأن الاشباح ليست في كثافة الماديات ولا في لطافة المجردات ويؤيد هذا القول ما نقله أحمد أمين في كتاب التكامل انصرف إلى صفحة 112([7]).

وقد روي عن الإمام علي×: «إن للجسم ستّة أحوال: الصحّة والمرض، والموت والحياة، والنوم واليقظة. وكذلك الروح؛ فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكّها، وصحّتها يقينها، ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها»([8]).

قالوا: وللروح تأثّر بالجسد وتأثير فيه؛ فلو مرض الجسد تاثّرت بمرضه، ولو حملت الروح شيئاً من الهمّ أو الغمّ أو الخوف مثلاً، فإن الجسد يتأثّر بسببها.

وبعد أن علمنا أن الإنسان مكونٌ من عالمين: عالم الخلق وهو عالم الأجسام المادية، وعالم الأمر وهو عالم الأرواح التي هي ممّا وراء المادة، بقي علينا أن نعلم: هل إن الروح هي النفس، أم إنها غيرها؟

فقال بعضهم: إنهما شيء واحد إلّا إن لهذا الشيء الواحد مراتب، فهو في مرتبة يسمى روحاً وفي مرتبة ثانية يسمى نفساً، وفي مرتبة ثالثة يسمى عقلاً.

وقال بعضهم: إن النفس غير الروح وأن العقل غيرها أيضاً، وإن كلّ واحدة منهما تختصّ بأعمالٍ خاصة بها، فالروح تُوجد للبدن الحياة والنمو، والنفس توجد الاحساس والإدراك والعقل هو الذي يهيمن على النفس ويأخذها إلى رشدها قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ ولا شك أن الناهي غير المنهي ويستدلون على أن النفس غير العقل أيضاً بأن المجنون يسمع ويبصر والسمع والبصر من افعال النفس ومن الفوارق بين الروح والنفس أن الروح لا تفارق الجسد إلا بالموت وأما النفس فانها تفارقه بالنوم وترجع إليه باليقظة.

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ([9]). فإن معنى الآية أن الله يتوفّى الأنفس حين موتها، ويتوفى الأنفس التي لم يحضر حين موتها في منامها، أي يقبضها كاملةً وافيةً. فلو لم يكن في الإنسان شيء غير النفس لكان في النوم ميتاً، والحال أنه حيّ؛ فجميع أجهزته بما فيها الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والدورة الدموية كلّها تشتغل، وربما اشتغل حتى جهازه التناسلي فأصابه الاحتلام. إذن فلابد أن تكون حياته حال النوم بشيء غير النفس، وهي الروح.

وقد ورد عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: إن في ابن آدم نفساً وروحاً، وبينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي فيها العقل والتمييز، والروح هي التي بها التحرّك والتنفّس، فإذا نام الإنسان قبض الله نفسه ولم يقبض روحه، وإذا مات قبض الله نفسه وروحه([10]).

وروي عن الإمام الباقر× أنه قال: «ما من عبدٍ ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سببٌ كشعاع الشمس، فإذا أذن الله في قبض الروح أجابت الروح النفس، وإذا أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح، وذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ…﴾…»([11]).

وفي (الدر المنثور) أن الخليفة عمر بن الخطاب قال يوماً: العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال، فيكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئاً. فقال له أمير المؤمنين×: «ألا اُخبرك بذلك؟ يقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، فالله يتوفى الأنفس كلّها ـ أي في حال نومها ـ فما رأته وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته إذا اُرسلت إلى أجسادها فتلقّاها الشياطين في الهواء فكذّبتها وأخبرتها بالأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة». فتعجّب الخليفة عمر بن الخطاب من قوله×([12]).

فهذه الآية الكريمة وهذه الروايات الشريفة تُصرّح بأن النفس غير الروح.

وقد جاء في (الزيارة الجامعة): «بأبي أنتم واُمي ونفسي وأهلي ومالي؛ ذكركم في الذاكرين وأسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس»([13]). والشيء لا يعطف على نفسه.

يتبع…

______________

([1]) الإسراء: 85.

([2]) النجم: 10.

([3]) ديوان البوصيري: 165، وانظر: سبل الهدى والرشاد 3: 95، الأنوار البهيّة: 36.

([4]) بحار الأنوار 18: 403/ 106.

([5]) الأعراف: 54.

([6]) المؤمنون: 12 ـ 14.

([7]) يرى؛ أهو الجسم، أم الروح أم النفس؟

([8]) التوحيد: 300 / 7.

([9]) الزمر: 42.

([10]) بحار الأنوار 28: 57.

([11]) بحار الأنوار 58: 27.

([12]) الدر المنثور 5: 230.

([13]) الفقيه 2: 616 / 3213.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة